الثورة الفكرية السعودية

إذا أردنا إعادة بناء الماضي بكل وقائعه وزواياه، وكما كان عليه في زمانه ومكانه بغرض الوصول إلى شيء قريب من الحقيقة التاريخية، فإننا بحاجة لثقافة حيادية واعية، ولتَتًبُع دقيق لحركة الزمن التي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على النص التاريخي. وهنا يجب ربط المنهج التاريخي بمستويات النقد في التفسير والتأويل والتنقيح والحكم في كل مرحلة من التاريخ.
معظم المؤرخين المسلمين الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي، في عصر الخلافة الإسلامية، سيطرت عليهم الأيديولوجيات الدينية والسياسية السائدة في حينها، ودَوَّنوا الوثائق التاريخية بطريقة فيها انحياز كامل للمرحلة التي كُتبت فيها، واصبحت بالتالي لا تُعبرعن حقيقة ما جري. كما تضمنت كتبهم "التاريخية" غرائب الأساطير لا يُصَدقها عقل، ومع هذا لم تَتَعرّض للنقد والتحليل والتصحيح، أو الحذف لأكثر من ألـف عام، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها كمصدر لمعرفة الماضي. فكتاب الطبري مثلا، المتوفى عام 310هـ، المُسَمىَّ بـتاريخ الأُمم والملوك، لا يزال إلى اليوم مصدرا أساسيا للسيرة، وللتاريخ الإسلامي بشكل عام. يقول ابن الأثير عن الطبري بأنه من أوثق من نقل التاريخ. أما أبن تيمية فيقول عنه: وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير الطبري، فأسانيده ثابتة، وليس فيه بدعة. كما يصف "السيوطي" الطبري بأنه "رأس المفسرين على الإطلاق".
ولكن بالتمعن في الكتاب، ولو قليلا، فإننا نجد أنه يحتوي على أباطيل واساطير وأحاديث عجيبة منسوبة لا تتماشى مع متطلبات واهداف البحث العلمي والتاريخي. ففي طبعة بيت الأفكار الدولية في السعودية، لكتاب الطبري، الذي يتكون من 2260، ورد في الصفحة 18 عن "بدأ الخلق" حيث يرد «إن الله كان عرشه على الماء. وأول ما خلق هو القلم، فقال له إجرِ, فجرى القلم بما هو كائن. ويرد في الصفحة 22؛« إن الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرض في الاحد والإثنين, وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والاربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل ». ويستطردُ في الصفحة 33 بأن الملائكة قبيلة من الجن وكان ابليس منها وكان له ملك السماء الدنيا والارض وما بين ذلك!
وورد في الصفحة 41, بأن ابليس هذا دخل في جوف بَعِير ودخل الجنة, واخذ فاكهة من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وحواء, فأغراهما وأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما, وأَخرجهما الله من الجنةِ, واسقطَ قوائم البَعِير وصار ثُعْبان.
ويكمل في الصفحات من 45 الى 47 « ان آدم عند هبوطه كان طويلاً لدرجة انه كان يمسح رأسه بالسماء فأُصيب بالصلع واورث الصلع لمن بعده, وكان بإمكانه سماع اهل السماء ودعاءهم فهابته الملائكة فشكت الى الله في دعائها, فنقص الله من طول آدم ليصبح ستين ذراعاً. »
ونتساءل هنا، كيف يمكن ان يكون هذا الكتاب "عمدة التواريخ" كما يُوصف؟ وكيف يعتبر صرحا معرفيا تاريخيا هائلا لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال؟ وكيف يمكن لأي باحث الاعتماد على تاريخ الطبري، الذي دُوِّنَ قبل أحد عشر قرناً، كمصدر تاريخي وهو في معظمه روايات قائمة على مجرد تخيلات دون وجود سبب عقلي أو منطقي مبني على العلم والمعرفة، واحداث غير معقولة مازالت الأجيال تتناقلها دون نقد او مراجعة؟ وما ينطبق على الطبري يسري على كتاب غيره من المؤرخين، كاليعقوبي والمسعودي وابن الأثير والقرطبي والبلاذري والواقدي و ابن الجوزي.
ومن هذا المنطلق فإن ما تقوم به السعودية حاليا من محاولات جادة لتنقيح التاريخ الإسلامي، عمل جبار، ولا يتطلب فقط الثناء عليه، بل والاقتداء به.
ملاحظة: المقال أعلاه مقتبس من مقال لم ينشر حتى الآن للكاتب محمد عبدالملك.
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top