سوار الذهب بدلا من صدام

لاشك اننا شعوب غريبة الأطوار، أو في أحسن الأحوال غير عاديين في كل شيء، ولكن بسلبية مطلقة.
خسرنا فلسطين في حرب 1948 وكنا ست دول مقابل مجموعة من الميليشيات اليهودية الأوروبية المسلحة، ولم يرف جفن 90% من أمتنا، لا لشيء إلا لأن نصف تلك النسبة لم تسمع بتلك الحرب والنصف الآخر لم يكن يعرف أصلا أين 'كانت' تقع فلسطين.
ثم جاءت حرب 56، التي سميت بالعدوان الثلاثي، والتي كادت تشكل هزيمة أخرى لأكبر الجيوش العربية لولا تدخل الرئيس الاميركي دوايت أيزنهاور، ومطالبته اسرائيل، ومعها بريطانيا وفرنسا، بالانسحاب من الأراضي المصرية، وهنا أيضا لم يعبأ غالبيتنا بما نتج عنها ومنها من إحباط.
ثم جاءت كارثة حرب الأيام الستة عام 1967 وايضا، لم تفلح نتائجها المأساوية في ان توقظ فينا جذوة الحمية والنخوة وشرارة الغيرة، بل انكفأ معظمنا على أنفسهم، وكأننا غير معنيين بما أصاب القيادة المصرية من تفسخ وتشرذم، وما ضاع من أراض فلسطينية أردنية جديدة ومصرية وسورية أكثر جدة، دع عنك شعور الشماتة الذي غمر قلوب ونفوس الكثيرين لتلك الهزيمة النكراء.
ثم جاءت حرب 73، والتي سميت بمعركة استعادة الكرامة، بالرغم من دفرسوارها المخجل، والتي أضعنا فيها ما تبقى من ماء وجوهنا، ثم ما تبع ذلك من وقوع الحرب الأهلية في لبنان بعدها بعام وعدوان صدام على ايران بعدها ببضع سنوات وما صاحب كل ذلك من سلب ونهب وتقتيل إسلامي - إسلامي، وما أقدم عليه صدام من عمليات تهجير وإبادة جماعية للأقلية الكردية في بلده، ومن بعدها اقترافه لجريمته الكبرى التي تمثلت باحتلاله للكويت لينهي بها، ربما إلى الأبد، اسطورة 'أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة'!
حدثت كل هذه المصائب والكوارث ونصف شعوبنا العربية لايزال غارقا في أميته راضيا بنصيبه من الحياة بعد أن أصبح جلده خشنا قاسيا عاصيا أمام كل وخزات إبر المحن والكوارث التي حلت بنا طوال نصف قرن من الزمنِِ وفجأة قامت قيامة الأمة واشتعلت قمم رؤوس أبنائها غضبا بعد ان طفح الكيل بها وأعربت عن غضبها العارم من خلال أقلام صحافييها وحناجر مذيعيها، ومن خلال مقابلات صحفية وإذاعية وتلفزيونية فضائية فضائحية، كلها تنادي ضمائر العرب وتناشد نخوة جماهيرها للفزعة وتلبية نداء الغضب بسبب ما أصاب الأمة من عار وشنار صائحة صارخة: واعرباهِِ واكرامتاهِِ واخزياهِِ وامصيبتاهِِ وكل ذلك بعد أن قامت صحيفة تابلويد بريطانية بنشر مجموعة من الصور التي تظهر الرئيس العراقي السابق صدام حسين في ملابسه الداخلية! لقد نسي هؤلاء كل ما مر بأمتهم وشعوبهم من محن ومصائبِ ونسوا كل ما اقترفه صدام بحقهم وحق أهله وشعبه ووطنه من ويلاتِ وربما تناسوا عمدا ما تسبب فيه من جرائم قتل وتشريد لأكثر من أربعة ملايين إنسان عراقي وعربي وايراني بسبب أحلامه المجنونة وقراراته الفردية الحقيرة والحمقاءِِ ولكنهم تذكروا فجأة أنه 'كان' يوما ما رئيسا لدولة عربية! وبالتالي فمن المخجل والمسيء لهم ولأمتهم ان تنشر صوره وهو شبه عار في سجنه!
من حق هؤلاء أن يثوروا لرؤيتهم زعيمهم المحبوب وحارس 'بوابتهم' الشرقية في ذلك الوضع المزريِ فهم لم يعرفوا يوما ما اقترفته يداه من إجرام في حقهم قبل غيرهمِِ ولكن هل هؤلاء بالذات على استعداد للإعراب عن القدر نفسه من الغضب لو كانت تلك الصور المذلة تظهر مثلا الرئيس السوداني السابق سوار الذهب، مع كل احترامنا له، والذي كان ولايزال الرئيس العربي والعسكري الوحيد الذي سلم السلطة التي كانت بيده، وهو راض وقانع، لسلطة مدنية منتخبة؟
الجواب بالطبع 'لا' كبيرة، فأكثرنا مغرم حتى الثمالة بكل مظاهر العزة والقوة والسطوة والسلطان التي يظهرها المجانين من الزعماء، ولو صاحب ذلك بطش وظلم وسجن وتصفية من الوجود، وتاريخنا القديم والحديث مليء بالكثير من الصور!

الارشيف

Back to Top