المعركة الأزلية

المعركة الأزلية
أحمد الصراف
منذ القدم كان هناك «خلاف ما» يتعلق بعلاقة الدين بالأخلاق، وهل الدين مصدر للأخلاق أم العكس؟
لو افترضنا أن الدين هو المصدر، لوجدنا أن «أخلاقيات أو فضائل دين ما» لا تسري بالضرورة على أتباع الديانات الأخرى، بل تشمل أتباع ذلك الدين، وأحيانا ينحصر التأثير على نطاق مذهبي أو قومي أضيق، داخل الدين نفسه، فما يحق للكاثوليكي لا يحق بالضرورة للبروتستانتي.
فمن المفاهيم المعروفة والمترسخة، خاصة في المجتمعات المتدينة، أن «دم ومال وعرض المؤمن»، لا يجوز التعدي عليها، وهذا يعني، ضمنا، أن الأسس الأخلاقية لجماعة أو قوم، لا تسري، غالبا، أو تمتد لغيرهم، فدمهم ومالهم وعرضهم غالبا ما تكون مباحة. كما أن الدين، أي دين، يمثل عقيدة، وطريقة وأسلوب حياة، يشمل عدة فضائل، لكنه ليس مصدرا شاملا وكاملا للأخلاق، على الأقل ليس المصدر الوحيد، حيث نرى ذلك في أمثلة معروفة، فاليابان، التي تعتبر دولة لا تحتل الممارسة الدينية مساحة كبيرة في عقول شعبها، إلا أننا نجدهم يتحلون، مقارنة بغيرهم، بأرفع القيم الخلقية، والالتزام بالقوانين وعدم التهرب من الضرائب، وحب العمل، لدرجة التقديس. كما نجد أيضا أن الشعوب الإسكندنافية تتسم بصفات مبهرة، ولديها وازع أخلاقي قوي يدفعها لأن تكون قدوة لبقية شعوب العالم، بالرغم من علاقتها «شبه المنفصلة» بالكنيسة.
كما نجد أيضا لدى شعوب منقطعة تماما عن العالم قيما أخلاقية وعلامات تدل على يقظة ضمير، ومعارضة «فطرية» لقتل النفس، ومقت الكذب والسرقة. كما أن كثيرا من الباحثين لا يتفقون على وصف مجتمع ما قبل الإسلام بـ«الجاهلية»، فكل من آمنوا بالإسلام، في بداياته، وآباؤهم وأمهاتهم، عاشوا في ذلك العصر ولو كانوا من الجاهلية لما استوعبوا هوية الدين الجديد، ولما اتبعوه. علماً بأن الكثير من قيم «الجاهلية» لا تزال متبعة حتى اليوم.
كما تتغير القيم من عصر لآخر، مثل وضع المرأة، وحكم اللقيط والرق، وقطع يد السارق، واقتناء الايماء، والعبيد من الذكور، ووجود أسواق النخاسة، وتطبيقات حدود الردة، والجزية، وغيرها الكثير. فالدين، حسب المفهوم العام، منظومة واسعة تتعلق أساسا بالعبادات والمعاملات، بينما الأخلاق هي قيم لا علاقة لها بالدين، وإن تقاطعت معها، وتهدف أساسا لتنظيم سلوك الإنسان وتحقيق الخير للجميع، دون فرق بين كافر ومؤمن. فالكذب مثلا على صديق أو قريب خطأ أخلاقي، ومحرم في أديان كثيرة، لكنه غير مخالف للقانون.
وسبق أن كتبنا بأن البعض قد يرى أن الديانات أتت لتكمل الأخلاق، لكنها تكملة لا يراها الآخرون بالضرورة صحيحة، فاليهودية طالبت بتطبيق مبدأ العين بالعين، فجاءت المسيحية وطالبت بالعفو والمغفرة لمن اساء، لكن ظهر الإسلام وأعاد الأمور لمبدأ العين بالعين. كما أن وجود البشر سابق بكثير لوجود الديانات والعقائد، وبالتالي لا بد أن شيئًا ما جعل البشرية تستمر لآلاف السنين ولا تفنى، يشبه «الرادار» المغروس في عمق النفس البشرية، والذي يسميه البعض غريزة البقاء، وعمودها الأخلاق؛ فغياب الرادار يسهل على النفس البشرية أن تفني نفسها طوعًا، كما تنتحر الحيتان على بعض الشطآن. وقد شاهدنا مذابح جماعية عبر التاريخ؛ فإن نهب القطيع نهبنا معه، وإن حارب حاربنا معه. ولو ارتكب الفرد جرمًا فسيشعر غالبًا بتأنيب الضمير. أما إن ارتكب الجرم نفسه مع الغالبية، فلا هو ولا من شاركوه في الجرم سيشعرون بالذنب، خاصة في الخلافات الدينية. فالانتماء العقائدي، وهو الأقوى بين الانتماءات، قادر على تعطيل عمل الرادار الطبيعي لدى الفرد.
يقول «ستيفن واينبرغ»: «يقوم الطيبون بأداء الأمور الطيبة، ويقوم الشريرون بارتكاب السيئات. لكن باسم الرب لا يتردد الطيبون في ارتكاب أبشع جرائم القتل».

الارشيف

Back to Top