«كالهون».. وتجربة الكون 25
قام عالم البيئة والسلوك الحيواني الأمريكي جون كالهون بإجراء سلسلة تجارب على القوارض، بهدف دراسة آثار الكثافة السكانية على السلوك الاجتماعي، حتى في ظل توافر جميع الموارد الأساسية.
أجرى تجربته المسماة «الكون 25» universe 25، قبل 60 عامًا، حيث قام بتوفير بيئة مثالية «يوتوبيا» لمجموعة من الفئران، خالية من الأمراض والمفترسين، مع وضع إمدادات غير محدودة من الطعام والماء ومواد التعشيش، ومساحة كافية نظريًا لاستيعاب أعداد أكبر بكثير من العدد الأولي. ومرت التجربة بمراحل عدة:
1 ــ التأسيس والازدهار الأولي strive period: حيث تتكيف الفئران مع بيئتها الجديدة، وتبدأ بالتكاثر واستغلال الموارد.
2 ــ النمو السكاني السريع exploit period: تبدأ هذه المرحلة تقريبًا من اليوم الـ105 إلى اليوم الـ315، وفيها يتضاعف العدد كل 55 يومًا تقريبًا.
3 ــ الركود والتدهور السلوكي stagnation phase، وظهور «المصيدة السلوكية» behavioral sink: تستمر هذه المرحلة حوالي 240 يومًا، يتباطأ خلالها معدل النمو السكاني بشكل كبير، على الرغم من استمرار توافر الموارد، وتبدأ سلوكيات اجتماعية غريبة ومدمرة بالظهور بشكل متزايد، حيث يتدهور سلوك الذكور، وتتوقف عن الدفاع عن «أراضيها» وإناثها. ويصبح بعضها عدائيا، يهاجم الإناث والصغار، ويمارس سلوكيات جنسية شاذة، كما لوحظ أن بعض الفئران أصبح بعضها يأكل لحوم بعض (على الرغم من وفرة الطعام).
4 ــ تصبح هناك عزلة اجتماعية تكون فيها الفئران عاجزة عن تكوين روابط اجتماعية طبيعية، أو الانخراط في سلوكيات معقدة، مثل التودد والتزاوج وتربية الصغار. وتصبح مجموعة أخرى منها منعزلة تمامًا، لا تتفاعل اجتماعيًا أو جنسيًا، وتقضي وقتها فقط في الأكل والشرب والنوم وتنظيف فرائها بشكل مفرط. ويتبع ذلك أن تصبح الإناث أكثر عدوانية، وتتخلى عن صغارها أو حتى تهاجمها، ويفشل بعضهن في إكمال الحمل، وتبدأ معدلات وفيات الصغار بالارتفاع بشكل كبير، وتبدأ الهياكل الاجتماعية الطبيعية للفئران بالانهيار، مع غموض أدوارها الاجتماعية، وتوقف التفاعلات الطبيعية، مثل التزاوج وتربية الصغار بشكل فعال.
5 ــ تبدأ هذه المرحلة حوالي اليوم الـ600. على الرغم من وجود أفراد منها لا تزال قادرة جسديًا على التكاثر، تتوقف الإناث القليلة المتبقية عن الحمل تمامًا، ويموت آخر فأر بعد أقل من خمس سنوات من بدء التجربة، وذلك في عام 1973.
استنتج كالهون من كل ذلك أنه حتى مع توافر جميع الموارد المادية، فإن الكثافة السكانية المفرطة والازدحام يؤديان إلى انهيار البنية الاجتماعية، وظهور سلسلة من السلوكيات الشاذة والمدمرة، التي أطلق عليها اسم «المصيدة السلوكية» behavioral sink.
هذا «الانحطاط السلوكي»، كما وصفه، أدى في النهاية إلى انقراض المجتمع بأكمله. ورأى أن ذلك قد يحمل دروسًا للبشر، محذرًا من مخاطر الاكتظاظ السكاني وتأثيره المحتمل في السلوك الاجتماعي والرفاهية النفسية، حتى في عالم يتمتع بوفرة مادية.
أثارت تجربة «الكون 25» الكثير من الجدل والنقاش، وشكك البعض حول مدى إمكانية تطبيق نتائجها على المجتمعات البشرية المعقدة، لكنها تظل واحدة من أبرز التجارب في مجال دراسة سلوك الحيوان وتأثيرات البيئة والكثافة السكانية. وكان الهدف الرئيسي لها هو دراسة آثار الاكتظاظ السكاني على السلوك الاجتماعي للقوارض في بيئة مثالية خالية من المفترسين والأمراض، مع توفر موارد غير محدودة من الطعام والماء ومواد التعشيش. كان يأمل في فهم كيف يمكن أن يؤدي الاكتظاظ بحد ذاته إلى انهيار اجتماعي، حتى في ظل غياب الضغوط البيئية الأخرى.
أحمد الصراف