«عُدَيّ».. وقهوة أبو هواتف!

كانت الساعة تقارب السادسة صباحاً عندما وصلت لمقهى «أبوهواتف». ركنت دراجتي البيج الحمراء، التي كنت أسميها «الرولز رويس»، تيمناً بسيارتي في الكويت، بالقرب من حمام المقهى، ودلفت للداخل اتقاء من الهواء البارد الذي كان يهب على المدينة من الشمال، والذي ذكرني بمخيماتنا العامرة في بر الصبية، غير البعيدة كثيراً عن مقهى «أبو هواتف»! قمت بإشعال كمية كبيرة من الفحم التي تحتاجها «الأرجيلة»، وذهبت للخارج لتنظيف الحمام. بالرغم من قسوة العمل فإنني كنت سعيداً بحالي، وأسعد كثيراً من غيري من الكويتيين، الذين لم يجد بعضهم عملاً، بالرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على «ضم الفرع للأصل»، بعد أن أصبحت الكويت المحافظة التاسعة عشرة من العراق، الذي كان لقرون جاراً شقيقاً ثم أصبح «عراق صدام»، الذي هز اسمه أميركا، فما بالك بما فعلته بأميركا بقية «مكونات جسده غير الطاهر»! وضعت أباريق الماء على السخان لزوم عمل الشاي والقهوة للرواد الذين لن يطول قدومهم. كان مقهى أبو هواتف يمتاز بتعدد أحجام «إستكانات» الشاي فيه، وتوفر «صمون الموصل بالقيمر» لديه. وكان الكثير يقصدونه لهذا الغرض، وبينهم ضباط كبار، وخاصة من مبنى جهاز المخابرات القريب من المقهى، الذي يرتادونه صباحا وهم متعبون من نوبة العمل الليلية. كان زبائن المقهى الآخرون من أهل المنطقة أو من علية القوم، الذين يأتون غالباً للالتقاء بضباط المخابرات، تقرباً وتزلفاً، إما لمعرفة مصير أبنائهم أو بناتهم المساجين في زنازين مبنى المخابرات، أو لرشوة أحد الضابط الصغار، ليقبل أحدهم توصيل رسالة أو علبة سجائر أو طعام لحبيب أو زوج أو ابنة من فلذات أكبادهم من «ضيوف الدولة»! كنت سعيداً نسبياً في عملي، وكان الدخل جيداً، خاصة مما كنت أتلقاه من إكراميات لا بأس بها من رواد المقهى، الذين كانوا يرأفون بحالي، وتأسياً بمقولة: ارحموا عزيز قوم ذل. أو لتشجيعي أو رشوتي للرد على أسئلتهم عن الضباط الذين يمكن الوثوق بتعاونهم أو الأكثر نفوذاً من غيرهم.

***

وصل أبو هواتف متأخراً، ولكن ابتسامة مرحبة ارتسمت على محياه عندما رأى المقهى عامراً، وكل شيء في مكانه، والخدمة مميزة والكل راض ومشغول إما بالأكل أو سحب نفس من الأرجيلة او إصدار صوت ارتشاف الشاي، أو تبادل الأحاديث. كنت في المطبخ أحضر سندويشات «صمون الموصل بالقيمر»، عندما سمعت صوت أبو هواتف وهو ينادي: صراااف.. عجل جيب واحد «صمون بقيمر» واستكانة شاي كبيرة لعمك «عدي»! جمدت في مكاني لسماعي الاسم، ولم أشعر بانسلال الصحن الصغير الذي كنت أقوم بغسله من بين أصابعي وسقوطه في الحوض الحجري منشطراً إلى نصفين. تركت مكاني واقتربت بهدوء من باب المطبخ الذي كان يفصله عن بقية المقهى، والمكون من حبال مملوءة بقطع الخرز المستدير الذي يحجب شيئاً مما في الداخل، وقمت بإزاحة بعضها بأطراف أصابعي ورأيت وجه «عدي» المرعب الذي لا يمكن أن أنساه، ورشاشه مسند على الحائط بجانبه. عدت لمكاني ورميت الصحن المكسور في سلة القمامة ووضعت الصينية وبداخلها ثلاث كبايات شاي كبيرة، وملأت الأولى بشاي من دون سكر، والثانية بالشاي والسكر، وثالثة بالشاي والسكر مع الحليب. ووضعت في الصحن شطيرتي «صمون الموصل بالقيمر». بصقت في الكباية الأولى وحركتها، وبصقت في الثانية وفعلت الشيء نفسه مع الثانية وكررت البصق في الثالثة، وحملت الصينية لتقديمها للعم «عدي»، وشعور من السعادة يغمرني لقرب انتقامي من عدو لدود. ما إن استدرت حتى فوجئت بأبو هواتف يراقب ما كنت أقوم به، فوقعت الصينية لا شعورياً من يدي وتكسّر كل ما كان عليها، وعرفت أن نهايتي قد اقتربت، وأنا أرى نظرات الرعب المهددة في عيني أبو هواتف تحملق بي، وبدأ كامل جسدي بالارتجاف، وكدت أقع على الأرض بعد أن أحسست بقدميّ تخونانني، ولم أهدأ قليلاً إلا بعد سماع همساته وهو يقول بأنه كان سيسلمني لعدي ليجعل جسدي كالمنخال برصاص رشاشه، لو لم يكن برقبته معروف للمرحوم والدي، عندما كان يعمل لديه سائقاً في الكويت!  وقفت واجماً، وأنا أرتجف من الرعب، عاجزاً عن قول كلمة واحدة أو فعل شيء، وخررت على ركبتي، ممسكاً بيده، كما هي العادة في العراق، محاولاً تقبيلها طالباً الصفح منه، فسحبها متأففاً، ومستعيذاً بالله من الشيطان، وتفهم ما غمغمت به من أن جريمة ذلك الحيوان البشري وأسرته وما تسببوا به في ضياعي وتشردي وضياع وقتل كويتيين أبرياء بعد تعذيبهم، وفقدي لوطني وأهلي وكرامتي، أعمى بصري.

***

كان هذا سيكون مصيري ومصير مئات آلاف الكويتيين من أبناء وطني لو لم تأت قوات العالم الحر، بقيادة «بوش وتاتشر» لتحرر وطني العزيز من أشرس وأسوأ وأغبى احتلال عرفه العالم في العصر الحديث. ثم يأتي من يرفض بإصرار عجيب، من دون سبب مقنع، تخليد ذكرى الغزو والاحتلال والتحرير! أو من يكيل الشتائم للغرب، صاحب الفضل الأكبر في عودة وطني، واستعادة حريتي.. وكرامتي.

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top