زغنبوط يوسف شيرين

بعد استقالتي من الوظيفة في نهاية السبعينات، مررت على زملائي في البنوك الأخرى لتوديعهم، وكان بينهم محمد ناجي، الفلسطيني الذي قدم تاليا خدمة كبيرة للبنك الذي كان يعمل به أثناء فترة الغزو الصدامي، ولكن لم يتم تقدير تضحيته بما يستحق. أثناء جلوسي في مكتبه أخبرني بقصة فتاة فلسطينية تعرضت لحروق شديدة في وجهها، وأنه يجمع المال لعلاجها، فمددت يدي لجيبي وأعطيته كل ما كان معي، وطلبت منه ألا يعد المبلغ أمامي، فإن كان كبيرا فقد أستكثره، وإن كان قليلا فسأخجل! ودعته وخرجت، وتصادف حينها دخول المرحوم حسين الأمير إلى نفس المكان فاستوقفني وسلمني مبلغا وقال انه نصيبي من ربح شركة سبق ان قمنا بتأسيسها، ولم يتسن دفع رأسمالها، وأنه باع فكرتها لأطراف آخرين! لم أكن أتوقع بالطبع ان أربح من مجرد فكرة تجارية، وقبلت المبلغ، بعد إصراره. عدت لمكتبي في الشركة فوجدت فاكسا من محمد ناجي بين أن ما تبرعت به لتلك الفتاة ساوى تماما المبلغ الذي دفعه لي حسين الأمير.. ويسمى هذا في الثقافة الهندية «كارما karma» أي إننا نلقى غالبا جزاء ما نفعل، خيرا أم شرا، في الدنيا وبعد مماتنا.
***
كتبت مقالا قبل اسبوع تقريبا عن المرحوم يوسف شيرين، وكان موضوع تعليقات إيجابية من بعض القراء، وبالتساؤل الجاد من آخرين عن سبب عدم وجود شارع باسم المرحوم يوسف شيرين بهبهاني، الذي كانت له بصمات لا تمحى على تاريخ الكويت، وكان من كبار التجار الشرفاء. كان أحد المتصلين صديقا وقارئا متابعا أخبرني عن قصة تتعلق بالمرحوم يوسف شيرين، سمعها شخصيا من أحد كبار رجالات الكويت، عندما كان معتادا على مجالسته في مكتبه في بلوك التجار. يقول الصديق، على لسان الرجل الكبير، ان يوسف شيرين كان كبعض تجار ذلك الزمان لا يذهب لبيته ظهرا، ويفضل البقاء في محله، وكان طعام الغداء يرسل له بأوان تسمى «السفرطاس»، أو طاسة السفر. وفي يوم دخل عليه بدوي من البادية لغرض ما فرآه قد فتح آنية الطعام لتناول غداءه. نظرات البدوي الجائع دفعت المرحوم لأن يعرض عليه مشاركته الأكل، فلم يصدق البدوي العرض ومد يده وأخذ الوعاء ولحسه حتى آخره، وأعاده فارغا إلى شيرين… وهو يسأله: وش اسمك؟ فرد عليه المرحوم بغيظ ممزوج بمزاح عرف عنه: زغنبوط! وتعني «السم الهاري أو القاتل» في اللهجة المحلية، ولكن البدوي لم يعرف طبعا معناها، ولا المزحة. عندما حل موسم الحج بعد فترة، خرج شيرين كعادته في قافلة حجاج متجها إلى مكة، وفي الطريق هجم عليهم قطاع طرق يريدون الفتك بهم وسرقة أموالهم، وأثناء الاشتباك معهم، انتبه رئيسهم إلى أن كبير القافلة لم يكن غير صاحبه «زغنبوط»، فصاح برجال عصابته طالبا منهم وقف هجومهم وتقدم من يوسف شيرين وقال له: أتتذكرني يا «زغنبوط»، فهز المرحوم، وهو مرعوب، رأسه بالإيجاب وقد جف ريقه وريق من كان معه، فقد كانوا قاب قوسين او أدنى من موت محتم على يد هؤلاء الأعراب القساة القلب…. فهو حتما لم ينس ذلك اليوم، وغير مصدق ما كان يسمعه من رئيس العصابة، ويبدو ان البدوي لم ينس طعم ذلك الطبق الشهي الذي تناوله ظهيرة ذلك اليوم في محل «زغنبوط»، فطلب من رجاله التراجع، وسرعان ما اختفوا جميعا.. هنا أيضا تدخل القدر ولعبت الكارما دورها.
***
نعيد التساؤل مع كثيرين غيرنا: أليس من المخجل والجحود عدم اطلاق اسم المرحوم يوسف بهبهاني على شارع يليق به وبسيرته؟

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top