عندما سُجنت في العراق (3 ــــ 3)

جاء المدد والعون بعد مرور يومين في السجن، الذي أصبحت شبه معتاد على روائح العرق والبول فيه. كما أصبحت أتحكّم أكثر في ساعات قضاء الحاجة، والاعتياد على طعام السجن، الذي كان يقدَّم لنا في أوانٍ كبيرة يشارك الجميع في التهامها بأيدٍ متّسخة، ولكن الجوع كافر حقير.. ومرت السنوات، وأصبحت أبحث عن شيء مشابه لذلك الطعام.. لإنقاص وزني. عاد الصديق الذي كان معي للكويت وأخبر والدي بالأمر، فقام من فوره بإرسال سائقه الفلسطيني للبصرة لمساعدتي، ولحسن الحظ كان أخوه الأكبر يمتلك مصبغة شهيرة في البصرة، فهب لنجدتي. وبدأت أطباق الطعام العراقية والفلسطينية الشهيرة ترد إليّ في السجن، وكنت أشارك صديقَي الكرديين في التهامها، وكان الطعام بحق شهياً، خاصة مع ازدياد الكمية يوماً عن يوم. في اليوم الرابع من سجني جرى نقلي للمحكمة في سيارة عسكرية من نوع اللوري يقودها عسكري، تصلح لنقل الأتربة، ويسهل القفز منها، والاختفاء بين الكتل البشرية، وهذا ما كان يجب أن يفعله أي متهم بالتجسّس لإسرائيل في دولة تعتبر معاملة السجين فيها مثالاً أبعد ما يكون عن الرحمة والإنسانية، ولكني لم أفعل ذلك طبعاً. بقيت في المحكمة ساعات ولم يأت دور نظر قضيتي لأن ملفي كان ضمن عشرات الملفات المتراكمة على مكتب القاضي. استمرت عملية نقلي من السجن إلى المحكمة على مدى أسبوع، واستمر معها تأخير النظر في قضيتي، وزيادة سعادة الأخوين بوجودي بينهما، لأن الوجبات زاد تنوعها وتحسّنت نوعيتها، هذا غير ما كان يرسل معها من بقصم بصري وقيمر وزلابية وليترات من الشاي العراقي السنكين. وكان الأكل والحديث تسليتنا الوحيدة، وأحياناً كان البعض يبكي النزلاء بغنائه الحزين، وما إن ينتهي حتى كانت اللعنات والشتائم تنهمر على رأسه، وفي اليوم التالي يتكرر الغناء، ويتكرر البكاء، وتتبع ذلك الشتائم واللعنات! تبيّن لمن كان يحضر المحكمة معنا أن دوري لن يأتي سريعاً، فما كان يوضع على مكتب القاضي من ملفات جديدة كان يفوق ما كان يبت فيه، وأصبح من الضروري وضع بضعة دنانير في يد الفراش ليقوم بسحب ملف القضية من تحت الكومة ليجلس فوقها. وفي يوم الحكم، لم يحضر القاضي، وكان لا بد من إعادة وضع شيء ما في يد الفرّاش الخمام الهمام ليبقى الملف في مكانه. وبعد أكثر من أسبوع حكم القاضي ببراءتي وإطلاق سراحي فوراً، وإن من حقي أخذ سيارتي، مع مصادرة رسالة صديقي الموظف الفلسطيني، وتوقيع تعهّد بعدم تكرار مساعدة العدو الإسرائيلي في استمرار احتلاله للأراضي المحتلة. ودعت رفاق السجن، وخرجت منه كما دخلته، بدشداشة وغترة وعقال وزوج نعال، ونسيت معاناتي، ولكن الذكريات حفرت ذاكرتي بأحداثها، وبقيت معي حتى اليوم. ما إن خرجت من البوابة طليقاً حتى انهالت عليّ قبلات ودعوات صالحات وتهنئة بالنجاة من الذين كانوا بانتظاري خارج البوابة غير البعيدة عن السوق الشعبية، وكانت القبلات من شقيق سائق الوالد وابنه اللذين اخبراني أن حياة جديدة قد كُتبت لي، فغالباً ما «تتناسى العدالة» من يدخل ذلك السجن.

أحمد الصراف 

الارشيف

Back to Top