عندما سجنت في العراق (2 – 3)

في اليوم الأول لسجني، تم التحفظ على سيارتي الفريدة من نوعها، والتي لاحظت أن مدير مركز صفوان كان مفتوناً بها، و«يباوع» عليها بين الفترة والأخرى. تم نقلي بسيارة عسكرية إلى البصرة، وفي مكتب السجن تم تحديد تهمتي بـ «جاسوس لإسرائيل»، من دون تحقيق أو سؤال أو محاكمة، وتم بعدها اقتيادي في شوارع البصرة سيراً على الأقدام من دون قيد أو حتى مراقبة شديدة، لمسافة نصف كيلومتر في أسواق مكتظة، لأخذ صور شخصية لي لملفي كسجين، لعدم توافر مصور أو «عكاس» في السجن، ذي النجوم الخمس… بالناقص. وعند العكاس قمت باستخدام غطاء رأسي «الغترة» لتغطية كامل وجهي عدا عينيّ، ولم يعترض لا الشرطي الذي كان معي ولا المصور على عدم صلاحية الصورة أصلاً… لجاسوس إسرائيلي… ولكن هكذا هي الأمور في دول أمهات «الحضارات»! نقلت بعدها إلى عنبر السجن بانتظار تقرير المخابرات وتقديمي للمحاكمة بعدها. كان العنبر الذي خصص لإقامتي المباركة مميزاً بقذارته واكتظاظه بعشرات المساجين. وهناك كونت صداقة مع اثنين من «النزلاء» تبين أنهما أخوان كرديان، كانت لمعاملتهما الطيبة معي أبلغ الأثر في نفسي، وتخفيف معاناتي، ربما لشعورهما الصادق بأنني مظلوم، وأنني لم أكن أنتمي لذلك المكان، وبسبب ضيق العنبر فقد كان النوم يتم جلوساً، وكنت والأخوان نسند ظهورنا بعضنا لبعض، ونغفو، فالنوم كان شبه مستحيل. لا شك في أن كل من كان في ذلك العنبر قد لقي حتفه تالياً بطريقة أو بأخرى في عراق الثورات المباركة.. فلم يأت لحكم العراق، بعد انقلاب 14 تموز 1958، من امتلك ذرة رحمة في قلبه أو فهم في عقله. وما زلت أشعر بالندم لأنني لم أطلب اسمي صديقيّ الكرديين، ولا أعتقد أنهما ندما تالياً على الاهتمام بي. من أحاديثي مع نزلاء العنبر، تبين لي أن جميعهم كانوا محاصرين بفكرة الموت، وأن ذلك يمكن أن يحدث لهما في أي لحظة، فلا قضاء عادلاً، مع حكم جائر ومعاملة غير إنسانية. وكان أغلبية المساجين يدعون أنهم أبرياء، ولكن سحناتهم لم تكن تقول ذلك، ولا شك لدي في أنهم كانوا في أغلبيتهم من ضحايا مجتمعاتهم وقسوة ظروف معيشتهم. تجربة السجن علمتني بعدها كم هو عزيز وطننا، وكم نحن مميزون بنظام حكمنا، بالرغم من كل ما نكتبه وما نشكو منه ونتأفف ونحتج، فإن كل ذلك ليس من الشعور بالظلم طبعاً، بل أملاً في وطن أفضل وأجمل.

وإلى مقال الغد..

أحمد الصراف 



الارشيف

Back to Top