عندما سُجنت في العراق (1 ــــ 3)

بعد انتهاء حرب 1967 بين مصر وسوريا والأردن من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، والتي نتج عنها ضياع بقية الأراضي الفلسطينية وإضعاف ذلك من أراض مصرية (سيناء) وسوريا (هضبة الجولان)، وهي الحرب التي خرجنا منها منتصرين، وفق أقوال أحمد غير السعيد، قررت وصديق السفر إلى إيران للتسلية ولغرض بيع سيارتينا هناك، التي أصبح الاحتفاظ بهما غير مجدٍ بعد إدراج شركة فورد ضمن قوائم الشركات المقاطعة لتعاملها القوي مع إسرائيل، التي تحوّلت مؤخرا إلى مقاطعة، قبل ان يرفع الحظر عنها بعد 40 عاماً تقريبا. تطلب الأمر السفر إلى البصرة، ومن ثم عبور جسر متهالك على أحد الأنهر بين العراق وإيران، وربما كان «نهر كارون» الواقع على أطراف البصرة، ومن ثم قطع طريق ترابي ممتلئ بالنخيل على جانبيه، للوصول الى مدينة عبادان الإيرانية. كنت حينها أعمل في بنك الخليج، وعندما علم موظف فلسطيني يعمل تحت إمرتي بخبر سفري لإيران، التي كانت لها علاقات جيدة مع إسرائيل، سلّمني ظرفاً بريدياً وطلب مني أن أضعه في أي صندوق بريد في أي مدينة إيرانية، وسيصل الى أهله في غزة، المحتلة من إسرائيل، والتي أصبح التواصل معها، عربياً، مسألة صعبة. أثناء التفتيش الأمني والجمركي لسيارات المسافرين في مركز صفوان الحدودي، وقع نظر المفتش على الرسالة المعنونة لإسرائيل فارتاب في أمري، وكثّف من تفتيش حقائبي، فوجد فيها بضعة أجهزة راديو ترانزستور بحجم الكفّ كانت معي! وهنا نظر إلي المفتش، وقال، وهو يهز الرسالة في وجهي: انت جاسوس ومهرّب، ولازم نحوّلك للرئاسة! كانت تلك بداية معاناتي في سجون العراق، ذات النجوم الخمس.. بالناقص، كطوابق بعض فنادق بيروت التي تقع تحت مستوى الطريق.. مع الفارق طبعا! شاهد صديقي الذي سافر معي بسيارته ما حدث لي، فغيّر طريقه، وأقفل عائداً للكويت. وعلى الرغم من مرور أكثر من 50 عاما على تلك الحادثة البائسة والسخيفة والخطيرة في آن واحد، فإنني لا أزال أشعر بالأسى، فلا يبدو أن شيئا تغيّر بعد كل هذه السنوات في معظم دولنا «الديموقراطية والشعبية والحرة الأبية»، فالسجون ذاتها والجلادون ذاتهم، ولكن الظروف أصبحت أكثر بؤساً، والمستقبل أكثر قتامة. أخضعت بعدها للتحقيق مع رئيس المركز، وشرحت له قصة الرسالة، وأن ليس في الأمر تجسّس، ولا من يحزنون، وإنني أخذتها من منطلق إنساني، ولكنه لم يكن مقتنعا بما ذكرت، وحجته أننا يجب ألا نسهّل الحياة للفلسطيني، وألا نساعده على التأقلم مع الوضع، لكي لا يقبل بالاحتلال.. ويستمر في المقاومة. فتح الرسالة فلم يجد في كلماتها شيئا له معنى غير ما تتضمنه أي رسالة عائلية من سلام وشوق، ولشكّه وضعها فوق مصباح، وحاول أن يقرأ ما كتب «بحبر سري» بين سطورها فلم يجد شيئاً كذلك. ثم أخرج زجاجة صغيرة بها محلول أصفر من درج مكتبه وسكب جزءاً منها على بعض حروف الرسالة، ربما ليكشف أسرارها، وهنا أيضا خاب ظنه.. وعندما يئس تماما، ولم يرغب في الاعتراف بعجزه، قال إنه سيأمر بسجني لحين ورود تقرير من «مخابرات بغداد» عن حقيقة الرسالة «السرية». وإلى مقال الغد.

أحمد الصراف 



الارشيف

Back to Top