العودة للمعطف

أساء الكثيرون فهم المغزى من مقالي الذي طالبت فيه بالتفكير جديا في تخفيض سعر صرف الدينار كمدخل لتعديل موازنة الدولة، وقبلها سلوك المواطن، طالما أن الحكومة غير قادرة على لجم مصروفاتها المتزايدة، وتتردد في تعديل هيكل الرواتب ودعم بعض السلع والخدمات.
قبل الرد على من انتقد الفكرة، دعوني أسرد تجربة شخصية مررت بها أثناء فترة الاحتلال الصدامي لوطني.
خرجت من الكويت بعد مرور عشرة أيام من الغزو بعد أن استشعرت خطرا على حياتي بسبب سابق مواقفي، وبعد أن أفرغت قوات الغزو الصيدليات من الأدوية الضرورية لحياة أحد أبنائي.
انتهى الأمر بنا في الرياض، وسكنا في جناح فندق مخصص لأحد أقرباء زوجتي، وكان علينا في البداية دفع ثمن ما كنا نتناوله من طعام، وبسبب ظروف تلك الأيام العصيبة فقد كان التوفير سيد الموقف. بعدها بأيام أصبحت إقامتي وأسرتي في الفندق مجانية، بما في ذلك الطعام. لم أخبر أسرتي بالأمر، بعد أن اعتادوا على طلب وتناول ما هم بحاجة اليه من طعام. حتى والدي كان يذهب للبقال القريب من الفندق ليشتري زجاجات مياه «البيرييه»، الأرخص ثمنا، في محاولة منه لتخفيف فاتورة الفندق عليّ.
لم أخبره ولا أبنائي، حتى اليوم، بأن المرطبات التي كانوا نادرا ما يطلبونها مع الطعام، وإن فعلوا فليتقاسموا الزجاجة بينهم، كانت جميعها مجانية، وفعلت ذلك على الرغم من شعوري بأنهم يعانون شيئا من الحرمان، إلا أن هدف الترشيد، وعدم تعويدهم على الإسراف غير المبرر كان أهم، خصوصا أن مستقبلنا، كلاجئين، لم يكن مطمئنا!
لقد عاش جيلنا وجيل أبنائنا الفترة الذهبية من تاريخ الكويت، وهي سنوات لن تعود ثانية، وبالتالي نحن مطالبون جميعا بترشيد إنفاقنا، وإن كان الفرد يستطيع التصرّف بطريقة رشيدة، فإن الحكومة، التي تدار من أفراد، تستطيع أيضا فعل ذلك، والأمم المتقدمة هي التي عرفت حكوماتها كيف تتصرف في الأزمات، وتؤقلم أوضاع شعبها لما هو أفضل.
الخلاصة، نحن لا نمر بأزمة مالية، بل بأزمة فكرية وأخلاقية. وعليه، فإن اقتراحنا المتعلق بتخفيض سعر صرف الدينار لا نهدف من وراءه دعوة الحكومة للتضييق على أصحاب الدخول المحدودة، بل لترشيد تصرفاتنا جميعا، التي ستتم بصورة تلقائية متى ما شعرنا بأن الحكومة جادة في خطط التقشف وجادة في خلق مناخ عام يدعو الى الرشد في الصرف والتصرّف. دعونا نعدل سعر الدينار، ولو لبضعة فلوس، وسنرى خلال أيام أن أولئك الذين كانوا، مثلا، يسافرون 5 أو 10 مرات في السنة، قد قرروا، من دون وعي، البقاء في البلد. ومن كان يسافر على الأولى سيتحوّل لدرجة رجال الأعمال، والأخير سيتحوّل للدرجة السياحية. وسنجد أن الغالبية أصبحت تتصرّف بعقلانية أكثر مع استهلاك المياه والكهرباء، وحتى الطعام، وغير ذلك. كما أن فرض الضرائب أداة فعالة أخرى لتعديل سلوك البشر ودفعهم لتوجيه أموالهم لأكثر الطرق إشباعا لاحتياجاتهم، بعد ترتيب أولوياتهم، فكفانا كل هذا التسيّب المالي، الذي طال كثيراً.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top