الإنسان ونظرية دارون (2 ـ3)

علمياً، لا وجود في الحقيقة لأي كمال في بيولوجيا الكائنات الحية وما هو موجود هو عبارة عن تجارب متكررة لتصاميم متغيّرة ومتعددة، بعضها يفشل ويضمحل وينقرض بسرعة والبعض الآخر ينجح ويستمر لفترات قد تطول، ولكن في النهاية مصير كل الكائنات الانقراض؛ وذلك لأسباب طبيعية بحتة كتغيّر البيئة أو الفشل في التنافس مع أنواع جديدة من الكائنات أو ما شابه.
ونعود الى قصة نشوء الإنسان، حيث يذكر المحاضر بأن الأدلة الجيولوجية تشير الى أنه قبل حوالي 7 ملايين سنة حصل تغيّر مناخي في العالم، أدى الى انحسار كبير للغابات في شرق أفريقيا وانفتحت نتيجة ذلك مساحات شاسعة من السهول التي تنمو فيها أعشاب السافانا الطويلة. لذا، انفتحت الفرصة أمام أسلافنا الى مغادرة الغابات والانتقال اليها، والتأقلم مع طبيعتها، وهنا نأتي الى موضوع المشي على ساقين، والتي هي ظاهرة نادرة الوجود في اللبائن، أو الثدييات، حيث كان أسلافنا البرايميت متكيفين على تسلق الأشجار والمشي على أطرافهم الأربعة. لكن طبيعة السافانا العالية شكلت بيئة خطرة عليهم، حيث لم يكن بإمكانهم رؤية المخاطر. كما اختلفت الحال جوهرياً عند انتقال الإنسان الى السافانا، حيث ارتفعت نسبة استهلاكه من السعرات الحرارية من المصادر الحيوانية، وذلك من خلال العيش على بقايا ما تتركه الحيوانات المفترسة من لحوم، وبعد ذلك من خلال عمليات الصيد التي غالباً ما تحتاج الى جهد جماعي منظم، وهذا أدى تاليا لنشوء العامل الثاني ألا وهو نمو الدماغ، وتطور حجمه ودوره.
فما تبعات المشي على ساقين وكبر حجم المخ؟
من المؤكد أن المشي على ساقين كان له أثر هائل في تطور ونشوء الإنسان الحديث وذلك بفعل تحرير الأطراف العليا من وظيفة المشي، وإفساح المجال لها لصنع الأدوات التي برع الإنسان في صنعها وكذلك في استعمال الذراع للرمي بدرجة من القوة والدقة ليس لهما مثيل لدى بقية الكائنات، إضافة الى فوائد أخرى. ولكن لكون الهيكل العظمي البشري ينحدر من أصول كانت تمشي على الأطراف الأربعة فقد حدثت بعض النتائج السلبية من عملية تحوير العمود الفقري والحوض والورك والركبة الى أعضاء تصلح للمشي على ساقين، بدلا من أربعة. كذلك، فإن المشي على ساقين كان له دور كبير في تحديد اتساع الحوض والذي هو كذلك قناة الولادة عند المرأة. فلكي تستطيع المرأة أن تمشي وتركض بتوازن، كان على قناة الولادة لديها أن تضيق. في حين ان هذا التحديد لا ينطبق على الكائنات التي تمشي على أطرافها الأربعة.
وهنا نأتي الى الخاصية الثانية، وهي حجم الدماغ. فقد بدأ دماغ الإنسان ينمو بشكل كبير خلال حقبة تزيد على 3 ملايين سنة. وبالطبع فإن حجم الدماغ يحدد حجم الرأس وزيادة حجم الرأس عند الوليد يحتاج الى قناة ولادة أوسع، لكننا لاحظنا أن قناة الولادة قد صغرت بفعل المشي على ساقين! وهنا نواجه عشوائية الانتخاب الطبيعي الذي يسبب تغييرات في جسم الإنسان لها آثار معاكسة، أحدهما للآخر بشكل غير منطقي أو حتى بشكل مجنون تماماً! فمن الواضح هنا أن هناك صراعا لقوى الطبيعة حيث بعض الصفات تلاقي نجاحاً أكثر من غيرها بغض النظر عما إذا كان ذلك يتعارض مع صفات أخرى.
لقد ذكرت بعض الأسباب المفترضة التي أدت الى نشوء المشي على ساقين، ولكن ما الذي أدى الى تضخم الدماغ البشرى الى الشكل الذي نراه اليوم؟ الآراء هنا تتفاوت، ولكن هناك افتراضا شائعا ومقنعا الى حد كبير بأن المحفز الأساسي للنمو الهائل للدماغ البشري يرجع الى ازدياد عدد الأفراد في الجماعة البشرية في السافانا وما رافقها من تعقد العلاقات بين أفراد هذه الجماعات، وهناك عوامل أخرى مهمة، مثل ازدياد اعتماد الإنسان على الثقافة التراكمية cumulative culture.

 

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top