عودٌ لحاتم

أثار مقالنا عن كرم حاتم الطائي شجون البعض، وكشف أموراً يجدر التطرق إليها.
لا شك في أن مفهوم الكرم نسبي، كأي أمر آخر، ويختلف من منطقة إلى أخرى. ففي الصحراء مثلاً يرتبط الكرم كلياً بتقديم الطعام للضيف. فعندما يجوع السائل أو المار بالمضارب، فإنه عادة لا يبحث عمن يرحب به بابتسامة أو يعطف عليه، أو يفتح له بيته لينام فيه، بل يبحث عمن يطعمه ويسد جوعه ليمدحه تالياً، ويصفه بالكريم.
ولكن مفهوم الكرم خارج المناطق الشحيحة بالطعام يختلف، ويعني غالباً أن يكون المرء كريماً بوقته وجهده وعلمه مع الغير، وألا يبخل بنصائحه على من يحتاجها، وأن يشمل ذلك الفقير والغني.
أخبرني صديق بأن ندوة شعرية أقيمت قبل فترة في مدينة خليجية، بالغ خلالها أحد الشعراء في كيل المدح لمسؤول كبير قائلاً إن كرمه فاق كرم «حاتم الطائي»، فأثار ذلك غضب بعض الحضور، ربما من منطلق قبلي بحت، وأسكتوا الشاعر!
كما أخبرني قارئ بأن الإيرانيين، تأثراً بالعرب وأشعارهم وتاريخهم، يصفون الكريم بـ«الطائي»، ربما لأنه ليست في ثقافتهم شخصية أخرى معادلة لها في الكرم. فمن هو حاتم الطائي هذا؟
هو شاعر عربي، وأمير قبيلة طيء، تُوفي قبل نصف قرن من الهجرة، وكان مسيحياً. اشتُهر بكرمه وجودة أشعاره، ويقال إنه تعلم الكرم والجود من والدته. وعاش معظم حياته في منطقة قريبة من حائل، شمال السعودية.
بلغ كرمه درجة السفه، فهجره والده. وفي رواية على لسان زوجته ماوية أننا أصبنا بسنة قحط، وأخذني وإياه الجوع وأسهرنا، فأخذت ابنتي وابني وجعلت أعلّلهما حتى ناما، فأقبل عليّ حاتم يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام، فرفقت به لما به من جوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي أنمتِ؟ فلم أجبه، فسكت، ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه، فإذا امرأة، فقال ما هذا؟ فقالت يا أبا عدي أتيتك من عند صبية يتعاوون كالكلاب أو كالذئاب جوعاً، فقال لها: أحضري صبيانك فوالله لأشبعنهم، فرفعت رأسي وقلت له يا حاتم بماذا تشبع أطفالها، فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقال والله لأشبعنّك واشبعنّ صبيانك وصبيانها، فلما جاءت المرأة نهض قائماً وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً ودفع إليها شفرة، وقال قطعي واشوي وكلي وأطعمي صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، فأيقظت أولادي وأكلت وأطعمتهم، فقال والله إن هذا لهو اللؤم تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم! ثم أتى الحي بيتاً بيتاً يقول لهم انهضوا بالنار فاجتمعوا حول الفرس، وتقنَّع حاتم بكسائه وجلس ناحية فوالله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر، ولا والله ما ذاقها حاتم وإنه لأشدهم جوعاً!
وسبق للأديب والسياسي غازي القصيبي أن كتب بأن الكرم كلمة اخترعها العرب كضمان اجتماعي من الجوع عند التنقل في الصحراء، فكبروا الكلمة وأعطوها قدسية لتشرئب أعناق الرعاع طلباً لفرصة تقديم الكرم عند رؤية عابر السبيل طمعاً في رضاهم عن أنفسهم وطمعاً في كسب المحامد بين الناس. ثم تأزم مفهوم الكرم لدى العرب بعد ذلك ودخل إلى دهاليز التبذير والتفاخر، وانحصر مفهومه لديهم على ذبح قرابين اللحم والشحم.
ومن أكثر مظاهر الكرم سوءاً ذلك الذي نراه في شخصيات معينة، ولكنها أبخل ما تكون على أهل بيتها!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top