المتنبي وأنا

لا أدعي معرفة بــ«المتنبي»، ولكن ربما بإمكاني القول، من سابق قراءاتي وأنا شاب، إنه كان يوحي لي بأنه كان دائم الطموح، قلقاً كثير التساؤل. وكان سليط اللسان وعذبه في الوقت نفسه، وكان أبو الطيب أعظم شعراء العربية، وأكثرهم تمكناً من لغته، وكان أغلب شعره، الذي قرأته ونسيت غالب ما حفظت منه، يدور حول الحكمة ووصف معاركه وتجاربه وفلسفته في الحياة، وغالبه كان في المدح، وكثير منه في الذم. وغالباً ما مدح من ابتغى رضاهم، وهجاهم عندما لم ينعموا عليه بما أراد، ومن هؤلاء سيف الدولة الحمداني وكافور الأخشيدي. وقد بزغ نجم المتنبي مع أفول نجم الدولة العباسية، وقيام دويلات إسلامية على أنقاضها. وبالتالي، تنافس أمراء وملوك الدويلات الجديدة على إعلاء شأن مجالسهم ودواوينهم، من خلال جذب العلماء والشعراء لهم في وسيلة دعاية وتفاخر، وللتواصل مع شعوبهم ومحكوميهم.

ولد المتنبي في الكوفة سنة 303 هجربة، وبالرغم من معرفتي المتواضعة به وإعجابي المبكر بشعره، الذي كان، وما زال، يتداوله أنصاف المتعلمون وغيرهم، وأنا منهم، فإنني لم أكن أعرف أن الكثير من الحكم والأبيات التي كنت أكتبها أو أضمنها مقالاتي أو أرددها أنها للمتنبي، وفي أغلبيتها أبيات طالما كانت مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء، ومن هذه الحكم أو الأبيات: «تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ» و«مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ»، وأبيات أخرى كثيرة نستخدمها في حياتنا اليومية دون أن ندري أغلبينا أنها أجزاء من قصائد شعرية للمتنبي! فالعشرات منها أصبحت مع الزمن أمثالاً وحكماً يستخدمها العارف والجاهل على حدٍّ سواء، ومنها: «يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم».

ومن أبياته الخالدة:

لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى

حتى يراقَ على جوانبهِ الدّمُ.

وهناك بيت:

إذا أتتكَ مذمتي من ناقصٍ

فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ

وأيضاً:

من لم يمت بالسيفِ ماتَ بغيرهِ

تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحد

والبيت الذي طالما سحرني:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

ويقول في قصيدة يخاطب بها سيف الدولة الحمداني:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ

ومن أبياته العظيمة:

إذا أنتَ أكرمتَ الكريـمَ ملكتَهُ

وإن أنتَ أكرمت اللئيمَ تمرّدا

ولبيان مدى اعتداده بنفسه وشعره، قال:

وما الدّهرُ إلا من رواةِ قصائدي

إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشداً

الارشيف

Back to Top