دمي وعرقي ومعجون الطماطم

 في بداية خمسينات القرن الماضي، هجر والدي مهنة الصرافة واتجه لتجارة المواد الغذائية. وكنت لسنوات، خصوصاً خلال العطلة الصيفية، أعاونه في المحل، تاركاً الشارع لأقراني. وفي سنة تعرّض محصول الطماطم الإيطالي إلى ضرر أجبر منتجوه على خلط معجون الطماطم بنسبة أعلى من الماء، فأصبح أقرب للعصير منه للمعجون. وقد خسر جميع المورّدين يومها من صفقاتهم، بعد أن رفض المستهلك المعجون الجديد، لقلة تركيزه واختلاف طعمه! وفي مبادرة مني لمساعدة والدي في التخلص من ذلك المعجون، قمت بشراء بضعة كراتين منه، وقمت بعرض علبها للبيع بالدرزن، من خلال «بسطة» أو مسطبة أقمتها في وسط تقاطع سوقنا مع سوق الفواكه والخضار واللحوم! جهودي لم تلقَ نجاحاً، حيث كانت ربة البيت، التي كانت أيامها مسؤولة عن شراء المونة، تهز العلبة وتمط شفتيها باستنكار ولا تشتري! بعد فشلي في التخلص من الكمية التي «تدبست بها» طرأت على بالي فكرة، وسارعت بتنفيذها بالرغم من مصاعبها، فقد كانت لدينا في المخزن كمية من صناديق الصابون، وكان بداخل كل صندوق كيس به عدد من البالونات، ولكن الوصول إليها أصعب من بيع معجون الطماطم، فقد كان الأمر يتطلب تسلق ما ارتفاعه 4 أمتار منها، بحيث يصبح رأسي ملاصقاً لشرائح حديد سقف المخزن، وهنا أتكلم عن شهر يوليو، وحرارة الصيف القاتلة وقت الظهيرة. وكان عليّ، بعدها قص الأطواق الحديدية الصلبة التي تحيط بالصندوق، وخلع المسامير ورفع الشرائح الخشبية، ودس يدي تحتها بحثاً عن كيس البالونات. وكنت أحياناً لا أجده فأنتقل إلى صندوق آخر، ولا أنتهي من تلك العملية إلا والجروح تغطي يدي والعرق المختلط بالدماء يغطي كامل ملابسي. وما إن أجمع بضعة منها حتى أسرع بها إلى السوق، وأنا أنفخها، وأنا أجرى لاهثاً بأقصى ما أستطيع! وعندما أصل إلى البسطة، التي كان يكفي أن تغطى بقطعة قماش لكي لا يقترب منها أحد، وأعرض البالونات للبيع حتى يتجمّع الأولاد الصغار، الذين عادة ما يصاحبون أمهاتهم وآباءهم في تلك الفترة الصباحية، منجذبين لألوانها الزاهية، طالبين شراءها، ولكني كنت أرفض بيعها من دون المعجون معها! صراخ وصياح أولئك الأطفال مكنني من بيع كل الكمية التي «غامرت» بشرائها! وهكذا حققت أول ربح في حياتي، بدمي وعرقي!

وقمت بعد العطلة بتطويع الأطواق التي كانت تربط صناديق الصابون وصنع ألعاب منها وبيعها لرفاقي في الحي. وحققت من وراء ذلك ربحاً آخر. وأتذكر أن جودة ألعابي لفتت نظر صديق للوالد فتنبأ بأنني سأصبح يوما «أديسون» الكويت، ولكن لو كان ما زال حياً لعرف مدى خطأ تنبئه!

الارشيف

Back to Top