قلم الدولارين الذي هزم الملايين

حاولت كثيرا ان اقنعه بأن الطريقة التي يقوم بالاستعانة بها في كتابة بحوثه وكتبه ومقالاته ودراساته طريقة تقليدية وقديمة (!!) وان عليه الآن ان يقتدي بالآخرين، ومنهم أبناؤه، ويلجأ لاستخدام الوسائل الحديثة في الكتابة التي ستوفر له طباعة منمقة وحروفا واضحة وانجازا غزيرا وسريعاِ ولكنه كان دائم الاعتراض على ذلك متذرعا بانه شب على الكتابة اليدوية وشاب عليها، وانه سيبقى معها حتى آخر عمره، وان ليس بامكانه، بعد كل هذا العمر، تقبل فكرة الاستعانة بجهاز كمبيوتر في انجاز كتاباته اليومية (!!).
وحاول الصديق هشام العيسى معه ما هو اكثر من ذلك، واحضر له جهاز كمبيوتر مبسطا وأراه كيفية استعماله والمزايا 'الرهيبة' التي ستكون بمتناول يده بمجرد الاستعانة بذلك الجهاز العجيبِ ولكن كعادته ابدى مقاومة غريبة واصرارا على التذرع بعدم 'تفهمه' لطريقة عمل ذلك الجهاز (!!)ِ وكان واضحا ان الامر يتعلق بموقف مبدئي خاص به، وانه يعرف الكثير عن ابداعات ذلك الجهاز ويعرف مزاياه وفوائده، ولكنه، ولسبب ما، يرفض ان يتخلى عما يعتقده نوعا من الوفاء والحب لذلك القلم الذي بقي الى جانبه وبين اصابعه منذ ان تعرف عليه قبل اكثر من اربعة عقود من الزمن.
*******
دخل علينا في غرفة مدير السجن، حيث كنا بانتظارهِ وجلس على اقرب كرسي بعد ان قام الجميع بالسلام عليه ومعانقته، وكان اول ما طلبه هو التحدث، عن طريق الهاتف النقال، الى رفيقة دربه السيدة 'أم انور'ِ ثم قام باجراء عدد من المكالمات الهاتفية الاخرى وتبادل معنا بعض الاحاديث المقتضبة، ثم قررنا وبعد اقل من نصف ساعة ان نتركه لكي 'ينعم' بصحبة رفاقه الذين ربما سيضطر لقضاء ما تبقى من فترة سجنه معهم في ذلك الفصل الدراسي الذي خصص ل 'منامتهم'!
*******
في طريق العودة اخذت افكر في هذا الانسان المفكر والكاتب المبدع والاكاديمي المحترم وصاحب المواقف المعروفة، والمدافع الصلب عن حقوق الانسان وحرية الفكر، والملتزم دينيا 'حتى النخاع' وكيف انتهى الامر به في ذلك السجن البائس، وفي قضية رأي، في الوقت الذي بقي خارجه أولئك الذين حطموا اقتصاد هذا البلد وخربوا ذمم الكثير من اهله وجندوا آلاف الشباب لخدمتهم وتحقيق طموحاتهم الشخصية واهدافهم السياسية، في الوقت الذي ابعدوهم فيه عن كافة سبل التقدم والرقي، واضاعوا عليهم وعلينا فرصة اللحاق ببقية امم وشعوب الارض، فاصبحنا نجتر الماضي ونلوك البائس من قصصه وكأننا اسياد العالم واشرافه وننتمي لأعلى مراتب أممه (!!) ويزداد تخلفنا كل يوم، بل في كل لحظة تمر من الزمن، ونحن في جهلنا سابحون وفي غينا سادرون!
اخذت افكر في صاحب هذا القلم، ذي الحبر الجاف كجفاف قلوب اعدائه، والذي لا تتجاوز قيمته الدولارين، وكيف اصبح مصدر صداع دائم لكل قلاع التخلف والاستبداد والتحجر في هذا البلد، بالرغم من كل ما يملكونه ويسيطرون عليه من جيوش جرارة من الاتباع ومنابر عالية وارصدة مصرفية نقدية واموال عينية تتجاوز مئات الملايين، وجمعيات ومؤسسات رهيبة الحجم، ونفوذ سياسي واداري واقتصادي مستثمر في كل مؤسسة رسمية وادارة حكومية ووزارة متنفذة! وكيف استطاع ذلك الانسان الاعزل من كل وسائل القوة المادية والنفوذ الحكومي او المالي او القبلي، الا من سلاح الفكر والقلم، ان يهز عروش التخلف بمجموعة من المقالات التي لم يستطع اي من اصحاب الفكر المتخلف الرد عليها فانهالوا على صاحبها بالسباب المقذع والاوصاف المشينة سواء في مجالسهم او من على منابرهم ومن خلال تكياتهم الصحفية! وعندما خانتهم الحجة واعيتهم الحيلة وعجز صبيتهم الكتبة عن الرد عليه رفعوا عليه دعوى الحسبة وكان ما كان من امر القاء القبض عليه وسجنه.
تحية للدكتور البغدادي ولكل ما يمثله من رأي حر وفكر منفتحِ وتحية لكل صاحب ضمير حر وحي ومستنير وقف معه وآزره.
احمد الصراف

الارشيف

Back to Top