الحرية مع التقدم في العمر

دخلت منزله الصيفي الجميل، كضيف وكصديق، وذلك في أحد مرابع جنوب اسبانيا الجميلة، واسترعت نظري عبارة مدونة على لوحة حديدية تقول: الأصدقاء والنبيذ يتطلب الأمر أن يكونا معتقين!
فكرت في الأمر قليلا وتبين لي مدى صدق العبارة التي ربما قرأت ما يماثلها عشرات المرات قبل سنوات طويلة، ولكنها لم تعن الكثير وقتها!
لم تأت هذه الخاطرة عرضا فقد أرسل إلي أحد معارفي 'إيميلا' تضمن 34 سؤالا، يمكن عن طريق الإجابة عنها، بصدق ودقة، الوصول إلى رقمين: العمر الحقيقي في لحظة ما والعمر المتوقع أن نعيشه، إن لم نتعرض لأمر أو حادث ينهي كل الأحلام والتوقعات وما قاله المنجمون.
من الإجابة بصدق ودقة على تلك الأسئلة تبين لي أن عمري النفسي يبلغ الأربعين تقريبا، على الرغم من أنني تجاوزت الستين. وأن من المتوقع أن ابلغ المائة! فكرت في الأمر مليا فوجدت أن أمورا كثيرة من حولي وفي تصرفاتي وطريقتي ونظرتي للحياة هي التي أوحت بكل تلك الإجابات المتفائلة على أسئلة الإيميل. فالعمر الحقيقي مسألة نفسية لا تقاس بعدد السنوات، بل بحقيقة مشاعرنا تجاه كل ما يحيط بنا، وما يجري حولنا!! فأنا شخصيا أشعر بأنني أعيش أجمل أيام حياتي، وأنني الآن الإنسان الذي طالما كنت أود أن أكونه، وهنا لا أتكلم عن تلك الشخصية التي ترمقني كلما نظرت للمرآة بالرأس الخالي من الشعر وبتجاعيد الزمن على الجبهة وحول الفم وبالدوائر المتعرجة حول العينين، بل بما يكمن خلف كل ذلك من فهم للحياة واستعداد للاستمتاع بكل لحظة فيها. فأنا على غير استعداد للتنازل عن أسرتي الجميلة مقابل عودة شعري لكثافته ولونه الأسود القديم أو التخلص من 20 كيلو غراما من اللحم والشحم التي تعيق حركتي. ولا أرغب كذلك في التضحية بأي صديق لدي مقابل تخلصي إلى الأبد من تجاعيدي. كما أنني في هذه السن أقرب كثيرا لأبنائي الآن عما كنت عليه قبل سبعة آلاف يوم، أو أكثر، ولا أود أن أكون أقل اهتماما بهم وأكثر شعورا بالحنان نحوهم مقابل كل ما يجعلني أبدو أقل من عمري! فالعائلة التي نجحت في تربيتها والأصدقاء الذين تمكنت من الاحتفاظ بهم طوال هذه السنوات وقائمة معارفي الذين يسعدون وأسعد بالالتقاء بهم كلما أتيحت لنا الفرصة لذلك، وحالة النضج النفسي والعقلي التي بلغتها والتي كان عدم وجودها يسبب لي ألاما كنت في غنى عنها، كلها أمور ليس من السهل التخلي عنها الآن مقابل أي شيء، ففقدها يعني فقد كل معنى للحياة، وبالتالي من الغباء استبدال فراغ بفراغ.
تقول سيدة بلغت عمرا متقدما في رسالة لها: لقد أصبحت الآن أكثر حرية عما كنت عليه، وهذا جعلني أكثر رأفة ورقة ورحمة مع نفسي ومع الآخرين وأقل انتقادا لي ولهم. لقد شاهدت الكثيرين يموتون قبل أوانهم قبل أن يعيشوا المعنى الحقيقي للحرية الذي لا يأتي إلا مع التقدم في العمر. فلا أحد سيعبأ إن جلست أمام الكمبيوتر حتى الرابعة صباحا، أو رقصت وحيدة مع أغنيتي المفضلة. وأعلم جيدا أن الذاكرة الضعيفة تأتي مع التقدم في العمر، ولكن حتى هذه تعتبر نعمة في أحيان كثيرة، أما الأمور المهمة فإنها تبقى عالقة في الذهن لفترة كافية. نعم لقد حزنت كثيرا على فقد حبيب وعزيز، وحتى حيوان أليف، ولكن هذا الحزن هو الذي أعطاني القوة وجعلني أكثر شفقة ورحمة وتفهما للآخرين. لقد أدت ضحكاتي وأنا صغيرة لحفر التجاعيد التي استقرت على وجهي، ولكني حتما أكثر سعادة من تلك التي لم تضحك لكي لا تتكون التجاعيد على وجهها!! ومع التقدم في العمر أصبحت أكثر إيجابية وأقل اهتماما بما يقوله الآخرون عني. كما أصبح لي الحق أكثر في ان أكون على خطأ، وأن أتناول الآيس كريم متى شئت ذلك!!
وعليه لنستمتع بالحياة....فالحياة لحظة!!

الارشيف

Back to Top