دبي والنعم.. ولكن!

سوف لن أتكلم عن تجارب الآخرين مع دبي بل عن تجربتي الشخصية.
اشتركت وآخرون في مشروع إدارة مطعم لبناني في أحد فنادق دبي الشهيرة. ولأسباب عدة تأخر افتتاح الفندق في «مول الإمارات». فقررنا، بعد تورطنا في توظيف طاقم المطعم، استغلال وجود الطاقم المدرب والعاطل عن العمل، في إدارة كافتيريا صغيرة في المجمع نفسه لبيع الأطعمة اللبنانية.
نجاح مشروع الكافتيريا فاق كل التوقعات، وساهم دخله في فتح مطعمين آخرين. ودخلها جميعا ساعد في مضاعفة عدد سلسلة مطاعم الشركة إلى ست، وكل ذلك في ثلاث سنوات فقط!
هذه قصة نجاحنا غير المتوقعة في أرض الأحلام دبي، التي لا تقارن بقصص الآخرين مع مليارات الدولارات، والتي تلخص ببساطة معجزة دبي التي أصبحت «إرم ذات العماد» العصر الحديث التي لا يوجد لها مثيل، وهي قصة نجاح عمراني وسياحي وترفيهي قل نظيره... ولكن لا شيء غير ذلك.
يقول لي كوان يو، الأب الروحي والفعلي لسنغافورة، في معرض تفسير سر تقدم بلاده، انه أدرك منذ اليوم الذي أصبح فيه رئيسا لوزراء الجزيرة مدى أهمية الحكمة الصينية التي تقول: «سنة واحدة كافية لتحصل على بذرة قمح، وعشر ضرورية لكي تنمو شجرة، ومائة ضرورية لكي ينمو إنسان. ولذلك عملنا على إنتاج مجتمع آمن ومستقر، وركزنا على «الثقافة والفنون»، فتمكنَّا من تكوين أشخاص قادرين على اختيار مواقعهم ووظائفهم ويؤمنون بأن الحياة تستحق العناء من أجلهم ومن أجل أبنائهم»!!
كلام جميل وعظيم من إنسان فذ وعبقري في علم الإدارة والسياسة، عرف مدى أهمية بناء الإنسان فأعطى الموضوع ما يستحق من أهمية. فناطحات السحاب والجزر والمصانع وكل المشاريع العمرانية والاقتصادية لا تعني شيئا بغير الإنسان المواطن الكفء!! وهكذا نجح «لي كوان يو» خلال فترة بسيطة في تحويل مجموعة مستنقعات فقيرة يعيش عليها خليط متنافر من البشر المنحدرين من أجناس وأعراق وديانات مختلفة ومتنوعة، والتي لا مورد لها غير ما يردها من عملية تأجير أراضي الجزيرة كقاعدة عسكرية بريطانية، نجح في تحويل سنغافورة لواحدة من أعلى دول العالم دخلا وأكثرها ثراء وأقلها فسادا وأعلاها إنتاجا، وأصبحت التجربة السنغافورية، والإنسان السنغافوري، الفنان والمثقف، مادة تدرس في جامعات العالم.
ولو قمنا بتطبيق ذلك على دبي لوجدنا أنها، مع كل عزها وجمالها وفرصها التجارية غير المسبوقة وريادتها في عشرات المجالات، إلا أنها لم تنجح، حتى الآن، في خلق الفنان والمثقف والإنسان الدبوي البارز، إلا ما ندر، فهذا يتطلب وجوده عقودا، ولا اشك في أن دبي ستنجح يوما في إيجاده إن هي أعطت الثقافة والفن والأدب ما تستحقه من أهمية.
المحزن والمؤلم أن الكويت، كانت وحتى الأمس القريب، وقبل أن يجتاحها جراد التعصب، من ديني وطائفي وقبلي، الذي تعاونت السلطة على خلقه وتشجيع نموه وتكاثره، كانت لديها بذرة ذلك المثقف والفنان والأديب، ولكن ذلك الجراد قضم أطراف المثقف وقضى تماما، أو كاد، على الفنان ونهش لحم الأديب وهو حي، وأصبحنا أبعد ما نكون عن دبي عمرانا وازدهارا وتقدما كونكريتيا، وأبعد بالمنافسة نفسها وبعكس الاتجاه عن الإنسان السنغافوري الجاد والمبدع!! ولا أدري إلى أي منقلب سينتهي بنا الحال، وفي أي داهية «سنغور»!!
والأدهى والأمر من كل ذلك، خاصة بعد الأحداث الطائفية والقبلية الأخيرة التي وقعت في عدة مناطق داخلية وخارجية، والتي بينت مدى فشل الإدارة الحكومية والسلطة في خلق المواطن الإنسان، أن أحلامنا أصبحت قاصرة على إبقاء الحال على ما هو عليه!! فكل المؤشرات تدل على أن الوضع سيزداد سوءا في القادم من الأيام، وخاصة مع المخرجات الانتخابية المتوقعة، والتي سيعود على أساسها 50% على الأقل من النواب «الأكثر سوءا» لمقاعدهم الخضراء ليحيلوا حياتنا إلى صحراء جرداء.

الارشيف

Back to Top