رد من عبدالمحسن تقي
الوفاء.. الوفاء يا ناس

لا تحبذ «القبس» عادة نشر ما يردها من تعليقات على ما يكتب في صفحات الرأي و«الاتجاهات»، ولم اعتد شخصيا نشر ما يردني من تعليقات في هذه الزاوية المتواضعة، ولكن لما للأخ عبدالمحسن تقي مظفر من معزة، ولجمال ما كتب، ولكمّ العواطف الصادقة التي تضمنها رده، أجدني مضطرا، بسرور، لإفساح المجال له لعل وعسى يلتفت المعنيون بالأمر الى موضوع مقالي والرد عليه ويقومون بعمل شيء يساهم في رد الاعتبار لمن لهم دين كبير في أعناق الكثيرين منا:
«الأخ أحمد الصراف، جريدة «القبس» الغراء، تحية طيبة،
اطلعت صباح اليوم (الأربعاء) على ما كتبته في عمودك اليومي بجريدة القبس «كلام الناس» تحت عنوان «علماؤنا وتسامحهم»، وأود ان اعرب لك عن اعجابي الشديد واتفاقي الكامل معك في ما كتبته، وهو يتسق تماما مع نظراتك الإنسانية الموضوعية في معظم مقالاتك التي اتحاور معك بشأن بعض ما فيها على الهاتف. ولكني في هذه المرة رأيت من الأنسب ان اكتب إليك – لأهمية موضوع مقال يوم 17-12 – بدلا من الحوار على الهاتف، أو في الحقيقة، إضافة إليه، لأني أرى ان هذا الموضوع جدير ان تتسع دائرة الاهتمام به بين الكويتيين الحريصين على رسم صورة إنسانية جميلة لهذا الوطن الصغير العزيز علينا.
صلب الموضوع وأساسه هما تقدير الكفاءات البشرية من مختلف الأعراق والمذاهب والجنسيات التي خدمت الكويت في مجالات مختلفة على امتداد التاريخ الحديث لدولتنا الفتية، هناك رجالات «ونساءات!» عظام قدموا لنا خدمات جليلة، ولكننا لم نحفل بتكريمهم او تقديرهم في الوقت المناسب، بل لم نفكر في الأمر حتى بعد فوات الأوان، والأوان لم يفت إذا كنا جادين في نظرتنا إلى هذه الامور، ولم نستخف بها او نستعلي عليها، وسأبدي بعض الملاحظات حول اثنتين ذكرتهما في مقالتك الجيدة، مع أن في بالي شخصيات أخرى تستحق منا التبجيل والاحترام:
الفنان صالح الكويتي وأخوه داوود يكفي أنهما في ذلك الوقت لم يكن للكويت شأن كبير ولا منزلة عالية كما هي الآن، اعتزا وافتخرا دائما بأن ينسبا نفسيهما إليها، ويجعلا الكويت في اسم عائلتهما، ويورثا ذلك الاسم العزيز لأولادهما وأحفادهما، على الرغم من انهما برزا ونشطا فنيا في مدن عربية اخرى لعل أبرزها بغداد عاصمة الفن والثقافة في ذلك الوقت. وظل هذان الرجلان معتزين ومفتخرين بالكويت حتى بعد هجرتهما إلى فلسطين مضطرين واقامتهما هناك واكتسابهما للجنسية الاسرائيلية. وربما استمع كثير منا إلى الفنان صالح الكويتي واشادته بالكويت وبالفترة التي عاش فيها في لقاءاته الإذاعية من «اورشليم القدس». نعم يا أحمد، الكويت كانت أولى بالاحتفال بمئوية هذا الفنان الكبير الذي ادخل فعلا السعادة والسرور وحب الحياة ليس فقط الى قلوب أجدادنا وآبائنا، بل حتى إلى قلوبنا نحن في هذا الوقت وقلوب أبنائنا وبناتنا، فكثير منا لايزال ينتشي بألحانه البسيطة الجميلة وأغانيه العذبة الشجية. ولكن كثيراً منا عندما يطرب لتلك الألحان والأغاني لا يدري انها من تراث ذلك الفنان المبدع. وأنا لا يزال يتردد في أذني صوت المطرب العراقي الريفي الشهير حضيري أبوعزيز (وليس خضيري!) وهو يقول ضمن مقطع غنائي له: «جرَ الكمنجة عدل يا صالح كويتي»!
لقد كنت سعيداً جداً عندما نشأت علاقة ودية عفوية – بفضل الإنترنت والتقدم التكنولوجي الحديث – بين ابنتي شروق وابن صالح الكويتي شلومو الذي اطلع على ما جاء في مدونة شروق «الجابرية زحمة» حول الفنان العتيد مع وضع إحدى أغانيه على المدونة، فكانت الاستجابة سريعة من ذلك الابن. وجرى تبادل عدد من الرسائل الودية بين الطرفين، سقطت فيها جميع العوائق التي فرضتها الظروف السياسية، وتلك التي أوجدتها الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية التي فرقت بين الناس، ولم ينتج عنها غير الأحقاد والعداوات وسوء الفهم المتبادل، في الوقت الذي نطمح فيه جميعاً إلى تحقيق السلام والعدل والتفاهم والتعاون العالمي، للوصول إلى مستقبل أفضل للبشرية.
أما الدكتور لويس اسكدر (وليس اسكندر!)، ذلك الطبيب الإنساني الرائع، فاعتقد ان الكويتيين جميعاً - وفق تجارب مختلفة معه – يذكرون بالعرفان فضله عليهم. لقد كان لويس اسكدر إنساناً بمعنى الكلمة، محباً للخير، حريصاً على خدمة الناس – أيا كانت مستوياتهم – بكل إخلاص وتواضع. أذكر جيداً ولا أنسى أبداً موقفاً له معنا – ونحن من أسرة متواضعة – كيف أتى إلى منزلنا وتبسط في الحديث مع صغيرنا وكبيرنا بلغته العربية المحدودة في ذلك الوقت. مرض والدي في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وكنت وقتها صغيراً دون العاشرة من عمري، فذهبت بالسيارة مع أخي الأكبر إلى منزل الطبيب الإنسان الدكتور اسكدر، وكان الوقت يقترب من منتصف الليل، كان نائماً وقتها، ولكنه لم يتأخر في ارتداء ملابسه البيضاء الأنيقة البسيطة وركب معنا في السيارة حاملاً معه حقيبته السوداء. في الطريق من الوطية إلى الميدان، كان يمزح معي ويتقرب إلي وأنا صغير ويلقنني بعض الكلمات بالإنكليزية حتى وصلنا إلى منزلنا. مد يده بلطف شديد إلى والدي المستلقي على ظهره متألماً وأجلسه ليبدأ الفحص والتشخيص. ثم أعطاه العلاج اللازم (شراباً وابرتين من حقيبته). لم يكن والدي راقداً على سرير بل ممدداً على أرضية الغرفة المغطاة بالحصير والبساط وفي جانب منها مسندان فقط. أثناء الفحص والتشخيص والعلاج السريع كانت والدتي تعد الشاي للضيف العزيز في حوش البيت الترابي الصغير. وضع المكان الذي أعد فيه الشاي وعرض على الدكتور الأميركي لم يكن مناسباً أبداً، ربما كنت أنا أتأفف من شرب الشاي فيه، ولكن الدكتور اسكدر استجاب لطلب والدتي وتناول منها الشاي بعد ان جلس – بملابسه البيضاء النظيفة – على أرضية الليوان الاسمنتية، ومد رجليه الى أرضية الحوش الترابية السمراء، وألقى بعض كلمات الشكر والمجاملة لوالدتي على كرم ضيافتها! ثم ودع من في البيت بكلمات طيبة وتطمينات لوالدي المريض. وفي طريق العودة الى منزله كان مصرا على الجلوس معي على مقعد السيارة الخلفي ليواصل لطفه ومزاحه معي ومحاولة تعليمي الانكليزية، وأخي عبدالله يقود السيّارة مبتسما وهو ينظر الينا في مرآة السيارة الأمامية. وصلنا منزله بعد الثانية من منتصف الليل. ودّعنا بابتسامة لطيفة وكأنه يعرفنا من سنين ودلف الى منزله. تلك الدقائق والساعات القليلة لا تُمحى من ذاكرتي رغم مرور ما يقارب ستين عاما عليها. كان لنا في ما بعد خمسة أو ستة لقاءات أخرى متباعدة مع الطبيب الإنسان لويس اسكدر في المستشفى الأميركي. لا أظن أنني رأيت أو سوف أرى طبيباً في مثل تواضعه وحرصه على متابعة المريض وكأنه قريب له!.
هذا الذي كتبته لك هنا عن الدكتور اسكدر سبق ان ذكرته شفاهة بحضور القس لويس اسكدر ابن الدكتور لويس اسكدر،بعدمحاضرة له ــ على ما أذكر ــ في دار الآثار الاسلامية في 21 فبراير 2000، وكان ذلك تعبيرا عفويا مني وعرفانا بجميل ذلك الانسان الطيب في حضور ولده.
رجال مثل هذين النموذجين يا أخي أحمد يستحقون منا كل التقدير والتكريم، فشكرا لك على ما كتبته، وعسى ان ندرك بعض مافاتنا».

الارشيف

Back to Top