علاماتي وقصائدي والموسيقى

على الرغم من أن علاماتي المدرسية في مادة الإنشاء كانت الأعلى في الفصل، وكنت جيداً في مادة الإملاء، فإنني كنت سيئاً في القواعد، وسيئاً للغاية في حفظ الشعر، وما زال الحال كما هو، بالرغم من أن ذاكرتي كانت ولا تزال جيدة وقوية، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من الأغاني، بلغات عدة، ومع هذا لم أحفظ من الشعر العربي غير أبيات لا تتعدى العشر.

بسبب هذا الضعف التاريخي، وعلاماتي الجيدة في بقية الأفرع، واحتمال رسوبي في مادة اللغة العربية، أخذني مدرس اللغة العربية الكهل، الأستاذ جاد، جانباً، و«غششني» بأن امتحان اليوم التالي سيكون في معلقة امرئ القيس، وإنّه عليّ حفظ أبياتها لأتجنّب السقوط، وتضييع سنة دراسية من حياتي!

انكببت على قراءة وإعادة قراءة أبيات القصيدة، طوال الليل، حتى تمكنت من حفظها:

ألاَ أَيُّـهَا اللَّـيْـلُ الطَّـوِيْـلُ ألاَ انْـجَلِي

فَيَا لَكَ مَنْ لَيْـلٍ كَأنَّ نُجُومَهُ

كَأَنَّ الثُرَيّـا عُلِّـقَت في مَصامِها

وَقَدْ أغْـتَدِي والطَّـيْـرُ فِي وُكُنَاتِهَا

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْـبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً

كَمَيْـتٍ يَزِلُّ اللَّـبْـدُ عَنْ حَالِ مَتْـنِه

مِسِحٍّ إِذَا مَا السَّـابِحَاتُ عَلَى الوَنى

عَلَى الذبل جَيَّـاشٍ كأنَّ اهْـتِزَامَهُ

يزل الغُلاَمُ الخِفَّ عَنْ صَهَوَاتِهِ

دَرِيْـرٍ كَخُذْرُوفِ الوَلِيْـدِ أمَرَّهُ

لَهُ أيْـطَلا ظَبْـيٍ، وَسَاقَا نَعَامَةٍ
* * *
ذهبت في اليوم التالي للمدرسة بعينين منتفختين، وصداع من أثر كم الشاي والقهوة الذي تناولته، وأنا أكرر تلك الأبيات اللعينة، ولزيادة الاطمئنان طلبت من زميلي الذي يجلس بجانبي أن يسعفني بأول كلمة من كل سطر، متى ما شعر بحاجتي للمساعدة!

نادى الأستاذ على اسمي، وكان عليّ الوقوف لألقي ما حفظت من أبيات، وكلي ثقة بأنني سأبلي بلاءً حسناً، لكني فوجئت ببقية زملائي الطلبة يطلبون من الأستاذ إعفائي من الاختبار، لما عرفوه عني، لسنوات، من عزوف عن حفظ الشعر!

دفعتني النخوة الفارغة إلى أن لا أخيّب «حسن ظنهم»، فقلت للمدرس بعدم استعدادي، فرفع الرجل الكهل رأسه ونظر لي بأسى وقال: يخرب بيتك يا أحمد.. صفر!
* * *
لكن من جانب آخر أحفظ عشرات الأغاني الإنكليزية والفرنسية والإيطالية وحتى الأسبانية، أو بالأحرى مقاطع منها، حتى مع عدم معرفة معانيها، هذا إضافة لحفظي لكم كبير من أغاني فريد وحليم وفيروز وأم كلثوم وأوبريتات وأغاني عبدالوهاب، ومنها أغنية «عندما يأتي المساء»، التي أحفظها كاملة منذ أكثر من 65 عاماً، وما أزال أرددها، ومطلعها: عندما يأتي المساء، ونجوم الليل تُنْثر

اسألوا الليل عن نجمي، متى نجميَ يظهر..إلخ.
* * *
كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ السر يكمن حتماً في الموسيقى، التي تصاحب القصيدة وتجعلها تحفة فنية باقية.. أبد الدهر، ثم يأتي أخرق ويحرّم الاستماع للموسيقى، بالرغم من أنها غذاء الروح ومتعة النفس، خاصة الكلاسيكية الغربية منها، والتي اشتقّت منها أغلبية دول العالم سلامها الوطني!

ملاحظة: في زمن مضى كانت سيرة حياة الموسيقار العالمي «فريدريك شوبان» تدرس في مدارس المعارف! بعد الصحوة اختفى الكتاب واستبدلناه بتدريس اكل الشوفان.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top