من دون ندم

عنوان المقال يعني، بشكل عام، من يتصرف أو يقترف جرما في حق الغير، من دون أن يكتنفه أي شعور بالندم أو الذنب. وهذا يصدر ممن لا يبالي بعواقب أفعاله أو من يتصرف بإحساس ميت، مع إدراك كامل بأن ما يقوم به مجرّم. ويقوم القضاة عادة بتغليظ عقوبة مقترفي الجرائم الكبرى، إن لم يجدوا لديهم ندما على ما فعلوه، وقسوة القلب هذه مؤشر على استعداد المجرم لإعادة اقتراف جريمته ثانية، إن توافرت الظروف نفسها له!
***
توفي الشاعر العراقي «سامي مهدي» قبل فترة (1940–2022) واصدر قبل وفاته بخمس سنوات كتابا بعنوان «شاعر في حياة.. ذكريات وأطياف»، ضمنه الشيء الكثير عن سيرته!

انتمى مهدي لحزب البعث مع انقلاب عام 1968، وكان في أواخر عشرينياته، وعمل في مواقع مهمة بمؤسسات إعلامية وثقافية متنوعة، وأصبح المديرَ العام للثقافة، والمديرَ العام للإذاعة والتلفزيون، ورئيسَ تحرير جريدة الجمهورية، وجريدة الثورة، ومجلة ألف باء، ومجلة الأقلام، ومجلة المثقف العربي، وغير ذلك من مناصب. كما كتب لصدام روايته «الصعود إلى سيحان» سنة 1987!

أثناءها غرق في مديح البعث الصدامي، وصناعة أسطورة كائن متوحش اسمه صدام حسين.

يقول الأستاذ عبدالجبار الرفاعي، في نقده لسيرة مهدي بأنه سيتحدث عن مواقفه السياسية التي لا تشبه قصائده، وهو ليس باستثناء في التاريخ، فقد تورط فلاسفة وكتّاب وشعراء من أمثاله في الدفاع عن أنظمةٍ قمعية، ومنهم الفيلسوف الشهير فرانسيس بيكون «1561–1626» الذي كان صديقًا حميمًا لايرل اسكس، ثم اضطر لخيانته، والتسبب في إعدام ولي نعمته.

كان بإمكان مهدي، بما ترك من إرث أدبي كبير، أن يكون شيئا، ولكنها كلها اصبحت بلا قيمة أمام افتتاحيات صحف المجد الزائف، وخطابات مديح الهباء. حيث تراجع مُبكراً عن ضفة الحياد الشعري، ولم يكن لموهبته حضورٌ يقلّل من تمادي سلطة صدام بالقتل والفتك، وفقدَ مع غبار الحروب آخرَ مَلَكات الحريّة تجاه صداقات الأدب والثقافة. وقال الرفاعي إن حماسه لتكملة قراءة السيرة بدأ يخبو كلّما توغل في صفحاتها، مع شعوره بأن الكاتبَ يستغفل القارئَ بعد أن أسقط من تاريخه الشخصي كلَّ شيءٍ يتصل بالانتماء لحزب البعث، وسنوات حكمه المريرة، وفشله في الاعترافِ بارتكاب أيِّ خطأ في حياته الحزبية، وتجاهلِه أية جريمةٍ ارتكبها حزبُه بحق شعبه والدول الأخرى، وولائمَ الذبح الصدامية لرفاقه، ويستحيل الاعتقاد بأنه لم يكن شاهدا على ما حدث. كما أن «مهدي» أصدر كتابَه بعد 15 عاما من سقوط صدام ونظامه، وتاليا إعدامه وهذا ما يسمى بانعدام الشعور بالذنب، وموت الضمير لديه، وعجز عن الاعتراف والاعتذار لشعبه، وتجاهله، وشعراء ومثقفين آخرين، ممن انخرطوا طوعيًا في جوقة المهرّجين لصدام ونظامه، مأساةَ المقابر الجماعية ومسالخَ البعث الصدامي.
***
المثال الآخر على موت الضمير يتمثل في السياسي العراقي الآخر «ناجي صبري الحديثي»، مدير تحرير جريدة الثورة، والأكاديمي، والسفير «المثقف» ومؤسس صحف وصاحب دار ترجمة، ووكيل وزارة الثقافة وآخر وزير خارجية مع سقوط نظام صدام، وكان شاهدا على جرائمه. وسبق أن قتل صدام أحد إخوته، وسجن وعذب شقيقه الآخر، حيث أخبرني سفير كويتي سابق مرموق أنه التقاه على عشاء، ووجد أنه لا يزال يمجد صدام، حتى وهو في ضيافة دولة خليجية، دون احترام لمشاعرنا. وكيف ان فقد الإحساس بالذنب ساكن بقلبه!

ومن تابع مقابلات ومحاكمات رجال النظام الصدامي يكتشف أن لا أحد منهم تقريبا اعترف بذنبه، وحتى الذين يعيشون بأمان في الخارج ترددوا في ذلك!

عدم الإحساس بالذنب أو الاعتراف بالحقيقة منشؤه في الغالب التربية الحزبية، بخلاف ما اقدم عليه رجال المرحلة المظلمة نفسها، من مخالفيهم، الذين لم يترددوا في الاعتراف بأخطائهم.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top