ذكريات الأميرة سالمة

تولى السيد «سعيد بن سلطان البوسعيدي» حكم عُمان عام 1804، واستمر حكمه القوي نصف قرن، وفي عهده اتسعت «الإمبراطورية العمانية»، لتشمل أجزاء من الساحل الإيراني وجزيرة زنجبار الأفريقية، إضافة إلى جزر تقع في منطقة الخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي، بما فيها أرخبيل جزر القُمر.

في عهده ازدهرت الحياة الاقتصادية، وتعايشت الأجناس من عرب وأفارقة وآسيويين، وكان أول من عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة في عام 1833، وكان له سفير في عهد الرئيس أندرو جاكسون، وهو أحمد بن النعمان الكعبي. كما عقد اتفاقيات مع 22 دولة أخرى، بينها بريطانيا وفرنسا والبرتغال.

توفي السيد (وتعني الإمام أو الحاكم) سعيد البوسعيدي عام 1856 أثناء رحلة بحرية من عمان إلى زنجبار، التي دفن بها، وترك وراءه عدداً كبيراً من الزوجات والجواري والأبناء، وكانت إحداهن الأميرة «سالمة»، التي كتبت مذكرات ضمنتها الكثير عن حياتها، علاقتها بوالدها، والطريقة الكريمة التي كان يعاملها وكل من كانوا من حوله.

أحبت سالمة تاجراً ألمانياً، كان يزور ويعمل في زنجبار، وهربت معه، بعد وفاة والدها، وعاشت في ألمانيا، وأنجبت منه، لكن سرعان ما وافاه الأجل، وتركها من دون سند ولا مال، وعاشت فقيرة بعد أن جردها أخوها السلطان من كل أملاكها وأموالها، فاضطرتها ظروف الحياة الصعبة إلى العودة وأبنائها لوطنها، حيث تصف في مذكراتها النادرة رحلتها الطويلة من أوروبا إلى سواحل أفريقيا الشرقية، وتصف كيف وصلت إلى الاسكندرية:

«.. ما ان وطأت قدماي أرضها وصرت بين مساجدها ومنائرها حتى طغى عليّ شعور غامر بالشوق والحنين للأهل والأوطان، شعور من كابد الغربة عن بلده سنين طوالاً، وشوق لا يحس به إلا من عانى مثلي الظروف النحسة التي عانيتها، وها عيناي تكتحلان برؤية من أحب!

حين مررنا على الأمن طلبوا إبراز هوياتنا، ولكني قررت عدم الكشف عن هويتي الحقيقية، فاستعرت هوية رفيقتي وأبرزتها للموظف، فاكتفى بها وسط دهشتي، وما إن خرجنا من الجمارك حتى أطبق علينا جمع غفير من الأهالي كادت أعدادهم تخنقنا، وكدنا نضيع وسط جلبتهم وضوضائهم، فقد أحاط بنا العشرات، رجالاً وفتيات يتصايحون ويتنابذون ويتخاصمون ويتشاجرون في ما بينهم، وهم يعرضون علينا خدماتهم بإلحاح يبلغ حد الإكراه. ولم نستطع فك الحصار المطبق وشق الطريق لأنفسنا إلا بمساعدة من كانوا معنا من المرافقين. كما استطعنا، بشق الأنفس، الحصول على عربة تقلنا إلى الأوتيل، ولم يخل طريقنا من المفاجآت والطرائف. ففي كل دقيقة وأخرى يقفز أحد الرجال لعربتنا عارضاً خدماته، كدليل أو ترجمان، ومنذراً من المتاعب التي سيلقاها من لا يتكلم العربية في البلاد، ولكن ما ان أرد عليهم بالعربية حتى يولوا مذهولين.

نزلنا الاسكندرية في أوتيل بالغ الوساخة غالي الثمن، وأمضينا فيه بضعة أيام متعبة. وكان الأسطى عبده سائق العربة، التي استأجرناها فترة مكوثنا في الاسكندرية، رجلاً طيباً، محباً للانبساط، وكان ميالاً إلينا، حتى إنه عرض علينا أن يأتي معنا إلى ألمانيا خادماً، وقد أقسم بشرفه أن يبقى مخلصاً لي طيلة حياته، وألا يشرب شيئًا من أشيائي الخاصة ، لكنه أصيب بخيبة أمل كبيرة حين اعتذرت عن اصطحابه معي فى نهاية اليومين». كان هذا قبل 150 عاماً تقريباً، فما أشبه اليوم بالبارحة... يا مصر!

وإلى مقال الغد.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top