أثر الحروب الصليبية في نفسياتنا (2 - 2)

كانت «عاهة» العرب الثانية التي ترتبط بالاولى هي عجزهم عن بناء مؤسسات ثابتة (وهذه ربما لا تزال فينا) فقد نجح الفرنج منذ وصولهم الى الشرق فى خلق دول حقيقية فكانت الخلافة تتم في بيت المقدس، بشكل عام، من غير صدامات، كون مجلس المملكة يمارس رقابة فعلية على سياسة العاهل. كما كان للكهنوت دور معترف به في لعبة الحكم، ولم يوجد شيء من هذا في الدول العربية الاسلامية، فكل نظام ملكي في تلك الحقب ، كان مهددا عند موت الملك وكل انتقال في الحكم كان يثير حرباً أهلية.

فهل مسؤولية هذه الظاهرة يجب أن تقع على حقيقة أن أصول الشعوب التي سيطرت على الحكم، كانت بدوية، سواء أكانوا العرب انفسهم أم الاتراك أم المغول؟ ليس في الامكان حسم هذه المسألة! ولكن لا شك أن غياب المؤسسات الثابتة، أثّر في الحريات لديهم، فسلطان الملوك عند الغربيين محكوم فى عهد الحروب الصليبية بمبادئ من الصعب تجاوزها، وقد اشاد المؤرخ ابن جبير بطريقة حكمهم القائمة على المؤسسات، واكتشف على طرقات لبنان الجنوبي الحالي حقيقة مثقلة بالنتائج، فحتى لو كان لمفهوم العدل عند الفرنج بعض المظاهر التي يمكن نعتها بـ«البربرية» ، إلا أنه كان لمجتمعهم امتياز يتعلق بحسن توزيع الحقوق بين الاقطاعيين والفرسان ورجال الكهنوت، والبرجوازيين، وحتى الفلاحين، لهم جميعا حقوق مشروعة واضحة. أما في الشرق آنذاك ، فكان لا حدّ لسلطة الحاكم الاعتباطية، وهذا أثر سلباً في تطور المدن التجارية والأفكار، بسبب رفض العرب، طوال الحروب الصليبية، الانفتاح على الأفكار الوافدة من الغرب، وكان تعلم الغازي لغة الشعب المغزو مهارة منه وكان تعلم هؤلاء لغة الغازي شبهة بل خيانة. والحق أن الذين تعلموا «العربية» من الفرنج كانوا كثيراً، بينما ظل أهل البلاد باستثناء بعض المسيحيين، منغلقين على لغات الغربيين. كما أن الفرنج أقبلوا على المدرسة العربية فى جميع الميادين، وكان من غير الممكن الاستغناء عما تعلموه منها لتوسعهم وانتشارهم في ما بعد، فتراث الحضارة الاغريقية ما كان لينتقل الى اوروبا الغربية الا عن طريق العرب مترجمين ومكملين. حيث استقى الفرنج معارفهم من الكتب العربية التي هضموها وحاكوها وتجاوزوها، وكم من كلمات علمية لا تزال تشهد بذلك، مثل تقدمهم في صنع الورق والاشتغال بالجلود والنسيج وتقطير الكحول واستخراج السكر. وكان عهد الحروب الصليبية شرارة ثورة حقيقية اقتصادية وثقافية معا بالنسبة الى اوروبا الغربية، أما في الشرق فقد أفضت لعصور طويلة من الانغلاق والتدهور والتأخر والظلامية، بعد أن انغلق العالم الاسلامي (ولا يزال) على نفسه، بعد أن انعدم فيه التسامح، وغدا عقيما ويشعر بأنه على الهامش، رافضا الحداثة التي يمثلها الغرب بحجة تثبيت هويته الثقافية والدينية، فلم يحصل لا على هذه ولا تلك. ولم تنجح إيران ولا تركيا ولا العالم العربي في ايجاد حل لهذا المأزق، وهذا هو السبب في أننا لا نزال نشهد ترجّحاً كثيراً ما يكون عنيفاً بين مراحل من التغرب الاضطراري وأخرى من الأصولية المفرطة الشديدة الكراهية للأجنبي.

واذا كان العالم العربي معجباً ومرتاعاً معاً من هؤلاء الفرنج الذين عرفهم برابرة وانتصر عليهم، وإن كانوا قد نجحوا مذاك في الهيمنة على الدنيا، فإنه لا يستطيع أن يصمم على اعتبار الحروب الصليبية مجرد فصل من ماضٍ انتهى. وكثيراً ما يدهش المرء عندما يكتشف إلى أي مدى ظل موقف الغرب والمسلمين بعامة متأثراً إلى اليوم أيضاً بأحداث يفترض أنه انتهى أجلها منذ سبعة قرون، وهذا ما رأيناه من ردود فعل بعد «غزوة منهاتن».

ومن جهة أخرى، والعالم يقتحم القرن الواحد والعشرين بقوة، لا يزال العرب يستشهدون بصلاح الدين وسقوط القدس واستعادتها. وتشبه إسرائيل في المفهوم الشعبي كما في بعض الخطب الرسمية بدولة صليبية جديدة. ومن فصائل جيش التحرير الفلسطيني الثلاث يحمل واحد اسم «حطين» وآخر باسم «عين جالوت»، وكان عبدالناصر يُقارن بصلاح الدين، الذي كان، مثله، قد وحد الشام ومصر وحتى اليمن! كما نظر البعض لحملة السويس عام 1956 على قدم المساواة مع حملة 1191 الصليبية، بقيادة الفرنسيين والانكليز. ولا يزال الشرق العربي يرى في الغرب عدواً طبيعياً، وكل عمل عدائي ضده، سواء أكان سياسياً أم عسكرياً أم بترولياً ليس سوى ثأر شرعي، ولا يمكن الشك في أن الصدع بين هذين العالمين يعود تاريخه الى الحروب الصليبية التي يشعر العرب بأنها كانت انتهاكاً واستلابًا.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top