نيتشه.. ورفض المغادرة

يقول الفيلسوف الألماني الكبير فريدرك نيتشه friedrich nietzsche (1844ـــ‏‏1900)، لا تقع ضحية للكمال المفرط، وتعتقد أن قول الحقيقة سيقربك من الناس. الناس يحبون ويكافئون الذين يخدعونهم بالأوهام.
ويقول: بما ان البشر يعاقبون فقط أولئك الذين يقولون الحقيقة، فإذا كنت تريد البقاء معهم، فعليك مشاركتهم أوهامهم، فالحقيقة تقال فقط من قبل أولئك الذين يريدون المغادرة!

أما أنا، فسأقول الحقيقة، قدر استطاعتي، وأرفض المغادرة، في الوقت الحاضر، على الأقل!
***
لكل سلطة حكومية، قضائية، تنفيذية أو إعلامية دورها الحيوي، إضافة إلى قوى المجتمع المدني الأخرى. فالكل يعمل لتنظيم الأمور وتنفيذ القوانين، وتطبيق العدالة، والأهم من ذلك، في عالمنا الذي أصبح شديد التعقيد، نشر المعرفة والتركيز على الحقيقة، فبغيرها يضيع البشر في خضم كل هذا الكم الهائل من المعلومات، والمعلومات المضادة، ولهذا فإن تثقيف الشعب وتنويره، وإبعاده عن الأكاذيب والخرافات، ومحاسبة أولئك الذين ينشرون الجهل والأوهام التي لا أساس لها من الصحة، أمر ضروري للغاية، خصوصاً في مجتمعات متخلفة كمجتمعاتنا. فمؤسف مثلاً قراءة «صراع الديوك» بين عدد من رجال الدين واختلافهم الشديد، عبر الصحف والقنوات الفضائية، على أمور كثيرة، وأغلبيتها لا أهمية لها، وآخرها موضوع تلبيس الجن للإنسان وركوبه ومعاشرته جنسياً!
***
ليس من السهل تغيير أفكار البشر بسهولة متى ما ضربت هذه الأفكار جذورها في وعيهم وحتى لا وعيهم، فعملية مسحها أو تعديلها ليست بالسهلة، خصوصاً مع تقاعس السلطات عن القيام بدورها التنويري من خلال المدرسة ووسائل الإعلام، ولهذا استغرقت عمليات التحديث عشرات السنين، ولا يزال أمام الكتّاب والمصلحين والمستنيرين الكثير للقيام به، فالاستجابة للإصلاح تكون عادة بطيئة ومكلفة ومتعبة، فالبشر عموماً بطيئون في استيعاب الأفكار الجديدة، ويترددون في مخالفة الأغلبية ويفضلون مسايرتها، وغالباً ما يتطلب الأمر تدخلاً «خارجياً» مؤلماً لإحداث التغيير بصورة راديكالية، كما حدث في روسيا السوفيتية وتركيا الأتاتوركية وغيرهما.

كما يتطلب ضمان نجاح التغيير الجذري أسباباً مقنعة، كتحذير القيادة الحكومية من خطر آنٍ على الدولة، وغالباً من قوى خارجية. أو خطر وقوع مجاعة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية بصورة متسارعة، فصاحب البطن الجائع على استعداد للاقتناع بأي رأي ينتج عنه سد جوعه، من دون السؤال ممّن وأين وكيف!

لكن هذه العوامل لا تجد غالباً صداها في أغلبية مجتمعاتنا، فحتى لو تعرضت لظلم قاسٍ وعلى مدى طويل، فإنها تفضل القبول بالوضع، ولا تلجأ للثورة إلا في حالات نادرة، لأنها مجتمعات تم تدجينها على مدى قرون بأنه لا شيء يصيبها غير ما هو «مكتوب» عليها، فلم الخوف؟ ولم الثورة، فهذا قدر الأمة ومصيرها؟ وهذا ما يتطلب دراسات أعمق وأشمل.

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top