شباك تذاكر «عبدالله» عايز كده

عندما كان النقاد في مصر ينتقدون منتجي ومخرجي الأفلام على المستوى الهابط لأفلامهم، كان رد هؤلاء الدائم: شباك التذاكر عايز كده!
***
تقاد الجماهير عادة، وفي كل المجتمعات، من صنّاع الرأي، شرفاء ومخربين، أفراداً أو أجهزة مخابرات، داخلية أو خارجية، ومن خلال مختلف وسائل الإعلام والتواصل. وتعتمد درجة وعمق التأثير على تقدم أو تخلف المجتمع، فكلما زاد تخلفه زاد اعتماده على غيره في تشكيل رأيه، وزادت حاجته إلى من يفسر ويحلل له، فيقبل ويصدق أي شيء وهو راض بمن يدغدغ مشاعره، ويضحكه، ويكذب عليه، خصوصاً إن استخدم الأخير الدراما والإثارة والمبالغة في حديثه، مستعيناً بما في ذاكرته من أسماء، ويفضل الأجنبية منها، وبالذات الموتى منهم، معتمداً على جهل أغلبية متابعيه وعجزهم، أو عدم رغبتهم في التحقق من صحة أقواله.
***
يقول السيد عبدالله النفيسي في لقاء تلفزيوني:

«.... قام اليهود المخفيون (hidden jews)، بقيادة «سباتاي زيفي»، بالاتصال بمجموعة من ضباط الجيش العثماني، ومن ضمنهم «مصطفى كمال» (فتدخل المقدم متسائلاً: أتاتورك؟ فرد النفيسي بعنجهية غير لائقة: أنا ما اسميه أتاتورك!)، وأكمل كلامه: مصطفى كمال من اليهود المخفيين. ويقال من يهود «الدونمة» الذين لا يعرفون دينهم، وأن «زيفي» اتصل بمصطفى كمال وقال له نسوي انقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني...إلخ!!».

طبعاً هذا الكلام لا يمت أغلبه للحقيقة بصلة، هذا بخلاف عدم أحقية عبدالله النفيسي، أو غيره، السخرية من لقب «أتاتورك» وعدم اعترافه به، فهذا تكبّر ممقوت وتعدّ على حق الشعب التركي في تسمية زعمائه بما يشاء!
***
ولد مصطفى كمال أتاتورك عام 1881، ووقع الانقلاب على السلطان العثماني عبدالحميد عام 1909، أي أن أتاتورك كان في نهاية عشرينياته حينها، وضابطاً صغيراً في الجيش، فكيف اختاره يهود «الدونمة» لتلك المهمة الصعبة، وتركوا من هو أعلى منه رتبة ومكانة وسناً؟ ولماذا سعى هؤلاء، وهم أقلية صغيرة جداً، إلى الانقلاب على سلطان عظيم الشأن في إمبراطورية إسلامية شاسعة وواسعة؟

الحقيقة المعروفة أن جبهة «الاتِّحاد والتَّرقِّي»، بقيادة الضباط الثلاثة الكبار، طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا، هي التي قامت بالانقلاب، وعزلت خليفة المسلمين السُّلطان عبدالحميد الثَّاني، وبالتالي لم يكن ليهود الدونمة، بالذات، ولا لزعيمهم ومؤسسهم سباتاي زيفي، أو لأتاتورك، دور في خلعه! فمن أين أتي النفيسي بفذلكاته وادعاءاته؟

علماً بأن «سباتاي زيفي» من مواليد عام 1626، فهل خرج من قبره بعد 300 عام من وفاته؟
***
كانت الدولة العثمانية في منتصف القرن الخامس عشر تمر بمراحل خطيرة، وفي تلك الأجواء قرر سباتاي ادعاء النبوة، وأنه المسيح المخلص، وكان ذلك عام 1648، فصدقه بعض المقربين منه من يهود أزمير وتبعوه، ولكنه اعتقل، وتم تهديده بالقتل، فتحول إلى الإسلام، ودعا اتباعه من اليهود إلى الإسلام، وعُرفوا لاحقاً بالسبتيين أو الدونمة!

والسؤال: هل عاد سباتاي زيفي إلى الحياة ليتصل بضابط صغير الرتبة والسن في الجيش التركي، ويطلب منه الانقلاب على خليفة المسلمين السلطان عبدالحميد؟
***
هذه المغالطات التاريخية يُقصد بها جذب المشاهد، وزيادة دخل القناة، حتى لو تسبب الأمر في تشويش «العقل العربي»، المشوش أصلاً، وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة في سرد مثل هذه المغالطات.

بذلت جهداً في إقناع القبس بوقف بث هذه الترهات، ولكن لم أجد استجابة تذكر، بحجة أن «الجمهور عايز كده»، وأن نسبة المشاهدة على البرنامج عالية. وهنا انتبهت إلى مدى سذاجتي، فشعب أعطى، بكامل إرادته، عشرات آلاف الأصوات الانتخابية لمن لا يستحق، والأمة التي زحف عشرات الآلاف منها للقاء من تنازل عن سابق صرخاته، وتناسى كل تهديداته للسلطة، وبلع كل تعهداته، هذا الشعب معظمه ربما يريد من يضحك على عقله، وبالتالي «أنا شكوو»!
***
المفارقة المؤلمة، أن السكوت عن هذا الأمر مؤلم، والكتابة عنه أكثر إيلاماً!!
***
ملاحظة: ستنتهي اليوم خدمة السيد «هاشم هاشم»، نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمؤسسة البترول، بعد سيرة عمل تجاوزت ربع القرن.

لا أعرف السيد هاشم شخصياً، بخلاف اتصالين يتيمين، لكن سمعت الكثير عن دماثة خلقه واستقامته، ويعتبر بحق صاحب خبرة يجب عدم نسيانها.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top