من هو عدو لبنان الأكبر؟

هل هي الطائفية، المحاصصة، الطبقة الحاكمة، النواب، إسرائيل، سوريا، إيران، حزب الله، أم التركيبة السكانية بكل ما فيها من تناقضات وملايين اللاجئين؟.

***

أدعي معرفة لبنان عن كثب، أرضا وشعبا. ولو كان لي الخيار، لما اخترت قضاء بقية حياتي في غيره. زرت لبنان للمرة الأولى عام 1956، ولم أتوقف منذ يومها عن زيارته، فيه تصاهرت قبل 45 عاما، ومنه نهلت المعرفة والمحبة، وألفت جامعاته وسكنت بيوته وارتدت مقاهيه ومكتباته ومطاعمه وصعدت جباله، وأحببت بشره. كما ذرعت طرقات قراه وشوارع مدنه، من بيروت لصيدا لصور لحاصبيا جنوبا وعودة للغسانية والنبطية والسعديات، وصولا لبيروت وجونيه وصعودا لبشري والقرنة السوداء وعيون قرقش، ونزولا للدير الأحمر، والتفاتا لبحمدون وبعلشمية ونزولا لليرزة، العامر بكل ما لذ وطاب فيه من فاكهة وأصحاب.

***

تم تقسيم الشعب اللبناني مع انتهاء الاحتلال الفرنسي عام 1943 إلى 18 طائفة. وشهد لبنان خلال المئة والخمسين سنة الأخيرة ثلاث حروب أهلية شرسة، 1860، 1958 و1975 ودامت الأخيرة خمسة عشر عاما. ثم جاء مؤتمر الطائف وفيه أقرّ «لوردات الحرب» توزيع مقاعد مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، فتكرست الطائفية أكثر وتعزَّزت مواقع الزعماء، وأصبح من الصعوبة اتخاذ أي قرار دون توافقهم، بعد أن حولهم الطائف لقوة أعلى من الدستور. لبنان دولة مستقلة على الورق، فغالبية القوى المحلية مرتهنة لقوى خارجية، تقبض منها وتطبق أجندتها، وهذه من سمات الدولة وساهمت طوال عقود في تدفق الأموال لها مصحوبة بتدفق مماثل من المشاكل الخطيرة، بحيث أصبح ساحة لتصفية الحسابات! مع ارتفاع وتيرة الفساد وامتناع البنوك عن صرف أرصدة عملائها وانهيار سعر الليرة وتصاعد التوتر السياسي، وما جلبته الكورونا من مشاكل جمة، اضطر اللبنانيون للخروج في تظاهرات صاخبة لم يعرفوا مثلها من قبل، بعد أن وحدهم الخراب والجوع واليأس. وكان الغضب عاماً وانصب، وللمرة الأولى، على الطبقة السياسية والقيادات الدينية. ولكن مع غياب من يقود الحراك وعدم وضوح مطالب المحتجين، خفت زخمها وانتهت للاشيء تقريبا. وحتى لو كانت هناك قيادة موحدة فلن تجد مفراً من اللجوء لمعادلة التوازن الطائفي لمكوناتها، وهذا يعيد المشكلة لنقطة البداية. فغالبية اللبنانيين يؤمنون بأن النظام الطائفي هو الضمانة الوحيدة لبقائهم، وعدم استفراد الآخرين بهم. كما أن الطائفة بحاجة لقيادة دينية وسياسية، تكون مهمتها تبديد الخوف من الفناء، وتسهيل حصول أفراد الطائفة على حصتهم من كعكة الدولة، شريطة أن تكون قيادة قوية وغنية، وبالتالي من حقها «عرفاً» أن تكون فاسدة لتتمكن من الصرف على الطائفة وحمايتها. وبالتالي فإن مشكلة لبنان تكمن في النظام الطائفي الذي يحاربه الجميع، ظاهريا، ولكن الجميع، من سياسيين ورجال دين وعموم أتباع الطائفة، متمسكون به، وضحاياه، المتمثلون في سكان عشرات المدن وآلاف القرى، والذين يشكلون الوعاء الساند للطائفية، هم الأكثر مساندة لهذا النظام. إن اللبناني، ومن واقع خبرة، إنسان مبدع ولكنه ينتمي لنفسه ومن ثم لطائفته. ولن تذرف الغالبية دموعاً لو سمعت بفناء طائفة ما، أو مغادرتها لبنان للأبد، فلسان حال من سيبقى سيكون غالباً: الله لا يردهم! قد لا يقبل الكثيرون ذلك مني، ولكنها حقيقة أخضعتها لأكثر من تجربة، وأحد دلالاتها ما كنا نشاهده خلال الحرب الأهلية اللبنانية من حفلات رقص وصخب في النوادي الليلية في منطقة ما، وانشغال منطقة أخرى في الوقت نفسه في حرب ضروس بكل أنواع الأسلحة، هذا غير القتل على الهوية، ثم لتنتقل الحفلات للجانب المحارب، والحرب للجانب المحتفل.. وهكذا! هذا لبنان، وهكذا سيبقى طالما أن الغالبية تفتقد الشعور بالانتماء لوطن واحد يقبل به الجميع. فعدو لبنان هو المواطن اللبناني، من سائق الأجرة حتى الأعلى. ووضعه لا يمكن أن يتغير بغير إيجاد نظام سياسي غير طائفي وجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة.

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top