عالم كئيب (1)

ما الموقف من رجل دين أو داعية يفتي في مئات القضايا، ويصرح في مختلف الأمور ويحلل ويحرم وينتصر لهذا الرأي أو الموقف، ويهاجم غيره، ويستمر على النهج والطريق لثلاثين او أربعين عاما، ويتبعه الملايين؟ فجأة تتغير مواقفه وتتبدل آراؤه، فيحلل جل ما كان يحرمه، ويجيز ما كان يدعو لتركه، ويثني على من كان يوما عدوا، ويعادي من كان يوما صديقا، وتصدر عنه آراء تخالف كل ما سبق أن قاله على مدى عقود، ومع هذا يستمر اتباعه ومريدوه والعاملون برأيه على عددهم وإيمانهم بمواقفه، إن لم يزيدوا، فهل يلام إن عاد وغير رأيه ثانية وثالثة؟ الإجابة بالنفي، فهو يبقى فردا «متمصلحا»، ويمكن بالمال أو بأمر السلطة تغيير آراء، وبالتالي المشكلة لا تتمثل به، بل في الشعوب الجاهلة التي تتبعه، وتتبرع له وتشتري كتبه وتسعى لسماع أحاديثه وتدافع عن آرائه ومواقفه وتصر على النهل من بحر «جهله». هذه الشعوب هي نفسها التي أعجبت وأحبت ورفعت البعض لدرجة القداسة لجهلها بالحقيقة التي تتطلب الجهد والوقت للوصول لها. والاعجاب بهؤلاء لا يشبه اعجاب الكثيرين بالمطربين او الممثلين أو من في حكمهم من مشاهير الفنانين، فهؤلاء كانوا دائما ملء السمع والبصر، والملايين تتبعهم، وتزداد أعدادهم مع زيادة جنونهم أو إبداعهم، هكذا هي الحياة. كما أن هناك فئة ثالثة، لاهم من الفنانين ولا من الدعاة، والذين أصبح الملايين، في دولنا بالذات، يتبعونهم، ويصدقون خطير آرائهم ويؤمنون بتحليلاتهم، ويجادلون كل من لا يتفق معهم في الاعجاب بهم، بالرغم من كل ما تتسم به شخصيات هؤلاء من تذبذب وقلق وتقلب وفقدان مصداقية. عجيبة شعوبنا التي تسكرها الغوغائية ويطربها حديث المؤامرة، ويشنف آذانها سماع قصص لا أصل لها، وهذا يعود ربما لحالة الانهزامية التي تعيشها والتي تدفعها دفعا للسير وراء هؤلاء وتصديق كل شيء من دون بذل ولو جهدا يسيرا في التيقن من صحة ما تسمع، وهذه حالة جهل محزنة يعيشها الغالبية، ولا مناص من الاعتراف بذلك، فالغالبية الساحقة لا وقت لديها لقراءة مقال جاد لا تستغرق قراءته دقيقة او اثنتين، دع عنك الكتب والدراسات، في الوقت الذي لا تتردد فيه نفس هذه الأغلبية من الجلوس أمام التلفزيون والاستماع لسلسلة مقابلات تستغرق ساعات طوال، وتصديق كل ما يرد فيها لحبهم لمن يثيرهم ويرضي نفوسهم المهزومة، ويحرك غرائزهم، ويعطيهم أملا زائفا. نحن لسنا أكثر سوءا من غيرنا، ولا أطالب الكل بأن يقرأ ويفهم، ولكني أدعو من تصله كلماتي ألا يصدق كل شيء، فقد كثرت الثعالب من حولنا، وزادت أعداد مدعي المعرفة الراغبين في إغراقنا في بحر التعصب والجهل. كما سيطر المزورون وحملة الشهادات المزيفة على مقدراتنا، وحان الوقت لأن نشك في كل شيء ولا نصدق أمرا قبل السؤال أو القراءة عنه، فتشويه الحقائق أصبح علما وحرفة متقنة، وزاد عليهم مدّعو المعرفة، ورواد التعصب.. وإلى مقال الغد!

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top