الحنين الغبي

يحن الكثير من الليبيين الى أيام «معمر زفت القذافي»، ويحن العراقيون الى حكم صدام، وغيرهما من طغاة، بعد كل ما شاهدوه من ويلات على ايدي من جاء بعدهم للحكم، وهذه شعوب اعتادت على السكوت على من يسلبها حريتها وكرامتها.
وفي هذا السياق، كتب كاتب عراقي ساذج، يصف نفسه بمعارض سابق لصدام، مقالا تحسّر فيه على أيام صدام، ويكتب ساخرا بعد الاعتذار «لأجمل دكتاتور» بأن هناك، على الأقل، عشرة أسباب تمثل قائمة الجرائم الحقيقية التي ارتكبها صدام، والتي يجب الاعتراف بأنه فعلها كلها بمفرده، وهو يتحمل عنها كامل المسؤولية، وبالتالي يستحق عليها الإعدام. فصدام، حتى عندما كان نائبا للبكر، أمم النفط العراقي، بقرار فردي جائر أعاد للعراقيين ثروتهم المنهوبة، مما تسبب بالكثير من الأذى والضرر للشركات النفطية الأجنبية. كما شن حملة ظالمة لمحو الأمية حتى ان نظامه المخابراتي، كان يراقب ليس جميع الأطفال، من اجل الذهاب الى المدرسة، فحسب، بل وحتى آباءهم وأمهاتهم أيضا. وأغلبهم من أبناء «الأغلبية الشيعية». كما يستحق صدام القتل لأنه أصدر قانونا يجعل التعليم إلزاميا حتى المرحلة الثانوية، مما حرم مئات الآلاف من الأسر العراقية من الاستفادة من تشغيل أبنائها في بيع السجائر في الشوارع.
ومنح الأكراد حكماً ذاتياً، يقال انه كان «شكلياً»، نالوا من خلاله سلطات أكثر مما تمنح انكلترا مقاطعة ويلز، وذلك من دون وجه حق، خاصة ان الأكراد في الدول المجاورة يتمتعون بحقوق أكبر بكثير ولا يتعرضون للاضطهاد والتمييز.
وحوَّل اللغة الكردية الى لغة ثانية يتعلمها العراقيون إجبارياً، وأعاد بناء منطقة كردستان، ولكنه شدد المراقبة على الحدود مما حرم «مهربي» الاحزاب الكردية من العيش على أموال تهريب البضائع. ومنحهم صحفاً تصدر باللغتين العربية والكردية، الأمر الذي كان يعد انتهاكا صارخا لحقوق الأكراد في مواصلة الأمية.
وعين نائبا كرديا له (!!) وحوّل ثروات العراق لبناء منشآت صناعية، بينما كان من اللازم التركيز على الاستيراد من الخارج، ومنح الفلاحين، وفقاً لقانون ينتهك جميع الأعراف الدولية، أراضي زراعية أكثر مما يستطيعون فلاحته. وعندما عجزوا، زودهم بالقوة، بمعدات ومكائن وآليات، حتى انه كان يوزع ثلاجات وتلفزيونات على الفلاحين مجانا لكي يجبرهم على شرب ماء بارد في الصيف، وعلى متابعة برامج التلفزيون، الأمر الذي حرمهم من النوم مبكرا. وكانت أجهزة مخابراته تنظم عمل الفلاحين في جمعيات يراقب بعضها انتاج بعض، مما شكل ضغوطا غير انسانية على الكثير من الفلاحين الأبرياء، الذين اعتادوا الاكتفاء بزراعة ما يحتاجونه لأنفسهم فقط.
كما جعل التعليم الجامعي مجانيا، وحول الجامعات الى مؤسسات علمية تستقطب الخبرات، وأسفرت عن ظهور علماء في مختلف مجالات الطب والهندسة والكيمياء والكهرباء والالكترونيات، وغيرها من الحقول العلمية، الأمر الذي كان يعد بمنزلة تشويه متعمد للامكانات الوطنية، ومحاولة خبيثة لغسل الأدمغة. وأصدر قانونا يضمن الحقوق المدنية للمرأة ويكفل مساواتها بالرجل، الأمر الذي لا يمكن النظر اليه إلا على انه إهانة للتقاليد والقيم العربية والاسلامية العريقة.
وأراد للعراق ان يكون قوة إقليمية عظمى، تملك أسلحة دمار شامل، وتشكل عاملا للتوازن مع القوة الاسرائيلية وتتحدى غطرستها، مما كان يشكل جريمة دولية عظيمة.
وصحيح انه كان ينفق على مشاريع البناء من دون حسيب ولا رقيب، فإنه لم ينهب درهماً واحداً، ولم يسمح لأي من مسؤولي نظامه ان تكون لهم حسابات في بنوك أجنبية، مما حرم الكثير من المناضلين الوطنيين والديموقراطيين من الاستفادة من أموال بلدهم وعائداته!
لست عراقياً لأرد على هذه المبالغات والكلام الفارغ، فأمثلة الكاتب تشبه وضع الوالدين، الذين وفرا كل شيء لابنهما، ولكنهما كانا يضربانه كل يوم ضربا مبرحا، ويهينان كرامته أمام أصحابه، ويعايرانه بما أعطياه من مصروف جيب، وما تكرما به عليه من وجبات طعام وملبس، ومنامة.. ولكن من الواضح أن هذين الوالدين فشلا في خلق إنسان صاحب شخصية وكرامة، بل أنتجا طفلا يخاف من ظله، ويشك حتى في والديه، وهذا ما حدث للشعب العراقي الذي كان الأب يشك في ولده، والزوج في زوجته، ويعيش الجميع في جمهورية رعب كاملة الدسم، فما جدوى المصانع التي بناها صدام (!!) ووضع الشعب بمثل هذا التردي، علما بأنها مصانع ومنتجات لم نسمع بما أنتجت.
ما لم يفهمه هذا الكاتب الساذج ربما لعجزه عن تصور الوضع الحقيقي، أن وضع العراق الآن ما هو إلا نتيجة حتمية لحكم جائر وحقير استمر لثلاثة عقود، حكم بها البعث وزمرته، بقيادة صدام، الشعب العراقي بالحديد والنار، بحيث اصبح حتى «أبو جبار» حفار القبور يتحسر على أيام الطاغية. كما يبدو أن الكاتب تناسى ما جره قرار صدام الفردي بالدخول في حرب مع إيران، وغزو الكويت من ويلات على العراق، وبالتالي لم يدرجها ضمن منجزات القائد الضرورة.
صدام لم يكن مجرماً بحق وطنه فقط، بل وبحق الإنسانية أيضا.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top