عقليتان وعالمان

يقول المفكر المؤرّخ صامويل هانتنغتون samuel p. huntington في كتابه المثير للجدل «صراع الحضارات» إنه يعتقد أن الصراع في هذا العالم الذي نعيش فيه لن يكون إيديولوجيا أو اقتصاديا، فالفارق الأكبر بين بني البشر، يكمن في الفرق بين المفهوم الآسيوي والمفهوم الأميركي، والغربي عموما، الذي قد يكون فلسفيا. فقيم «الكونفشيوسية» confucian، مبنية أصلا على السلطة والتسلسل الهرمي، وخضوع مصلحة الفرد وحقوقه، لمصلحة الجماعة، وتجنّب المواجهة، والحرص على حفظ ماء الوجه، والإيمان بسيادة الدولة على المجتمع، والمجتمع على الفرد، وهذا يعني استسلام الفرد كليا للجماعة وتنازله عن حقوقه لها.
أما القيم الأميركية الغربية فتعتمد على المساواة والديموقراطية والفردية، والميل الى عدم الثقة بتصرّفات الحكومة، ومعارضة التسلّط، والدفع باتجاه الحوكمة وفرض الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، وتشجيع المنافسة، وتقديس حقوق الإنسان.
وللاستدلال أكثر على هذا الفرق، أذكر أنني قرأت أو سمعت، قبل صدور كتاب هانتنغتون بأكثر من عشرين سنة، عن مثال جيد يبين الفرق بين العقليتين وكيفية تصرّف المنتمين الى كل منهما في موقف معين، حيث قامت جهة بإجراء استطلاع شمل مجموعة من قائدي المركبات في كل من أميركا واليابان، قامت بإيقافهم وسؤالهم عما سيقومون بفعله لو وجدوا أنفسهم أمام كارثة طبيعية، ولهم فرصة إجراء مكالمة هاتفية واحدة. كانت النتيجة أن غالبية الأميركيين قالوا إنهم سيقومون بالاتصال بأسرهم للاطمئنان عليها، بينما ذكر غالبية سائقي المركبات اليابانيين أنهم سيقومون بالاتصال برؤسائهم لأخذ التعليمات بما يجب عليهم القيام به!
في كتابه، ركّز هانتنغتون على الإسلام، وقال إن مناطقه الداخلية دموية»، مشيراً الى صراعات المسلمين مع الأديان الأخرى، كما حصل في السودان وجنوبه، وبين الهند وباكستان، وغيرها من مناطق العالم، هذا غير مشاكل الهجرة في أوروبا وتنامي العنصرية فيها وغير ذلك. كما استشهد هانتنغتون بالغزو العراقي للكويت عام 1990، وكيف كانت شعبية صدام مرتفعة في أوساط الشعوب العربية والإسلامية، على الرغم من أن معظم حكومات تلك الشعوب لم تؤيد مواقفه، وانضمت الى تحالف دولي بقيادة أميركا لتحرير الكويت. كما عارضت جماعات الإسلام السياسي جميعها التحالف الدولي، واستعمل صدام خطاباً شعبوياً، صوّر فيه الحرب بأنها بين حضارات وجماعات إسلامية. ويحدد هانتنغتون سيناريوهات عدة لعلاقة الغرب مع «الآخرين»؛ إذ يقول إن الغرب لا يواجه تحديا اقتصاديا من أحد، فالدول الغربية تستعمل مزيجا من القوة العسكرية والمؤسسات الدولية والترويج لقيم الديموقراطية والليبرالية لحماية مصالحها وضمان هيمنتها على إدارة العالم. ويقول إن النضال والسعي العسكري والاقتصادي للقوة هما ما سيحدّدان شكل الصراع بين الغرب والحضارات الأخرى، مهما حاول الغرب أن يقول إن قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية والعلمانية والدستور، وهي قيم عالمية تستفيد منها البشرية جمعاء، فوفقاً لهانتنغتون، صحيح أن جوانب من الحضارة الغربية وجدت طريقها في حضارات أخرى، ولكن قيم الديموقراطية وسيادة القانون والسوق الحرة قد لا تبدو منطقية في عقلية المسلمين أو المتشددين المسيحيين، وسيؤدي ذلك الى ردود فعل سلبية.
وحدّد هانتنغتون ثلاثة سيناريوهات للصراع بين الغرب والآخرين:
1 – أن تحاول تلك الدول عزل نفسها وحماية مجتمعاتها من «الفساد الغربي» والانعزال عن ساحة السياسة الدولية، ولكنّ دولاً قليلة لديها المقدرة على ذلك.
2 – أن تعمل تلك الدولة تحالفاً مع الغرب وتغريب مجتمعاتها؛ كتركيا.
3 – أن تتحالف تلك الدول أو الحضارات مع حضارات غير غربية أخرى، وتسعى لتشكيل قوة اقتصادية أو عسكرية معها، بغرض تحقيق التوازن أمام الدول الغربية.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top