العجيري الكبير والطيب

غادر دنيانا قبل أيام الرجل الكبير والأمين، والكويتي الصادق عبدالرحمن محمد العجيري.

تعرفت على المرحوم «أبو محمد» في منتصف الستينات، عندما عملت في بنك الخليج في وظيفة متواضعة، او الأدنى في البنك، وكانت وظيفته مرموقه كرئيس للصرافين.

كان الفقيد عبدالرحمن يمثل بالفعل الطينة الكويتية الطيبة، الصادقة في تعاملها والمتراحمة في علاقتها، والأمينة في تعاملها، ولم اسمع منه يوما، على مدى ما يقارب العقدين من العمل معا، كلمة نابية أو تصرفا يؤخذ عليه.

كان مقعدي على الحاجز، الكاونتر، في أيامي الأولى في البنك، يجاور الصندوق الزجاجي الذي يجلس فيه أحد الصرافين. ولم يكن يفصلني عنه غير لوح زجاج سميك، ولكن ذلك اللوح كان يمثل الكثير لي. فقد كان الصراف الذي يجلس خلفه، لأقل من أربع ساعات في اليوم، يتقاضى راتبا شهريا يقارب مئتين وخمسين دينارا، مقارنة براتبي الذي لم يكن يزيد على 70 دينارا، وهو اقل من راتب بعض الفراشين القدماء. وكان الصراف ينهي عمله ويغادر لبيته، بعد ساعة تقريبا من إغلاق أبواب البنك للجمهور، أما أنا فكنت ابقى بعدها لساعتين أو أكثر لأنهي عملي المضني.

وفي أحد الأيام تحدثت مع المرحوم عبدالرحمن وقلت له إنني أود العمل صرافا معه، لكي أغادر مبكرا، ولكي يتضاعف راتبي لثلاثة أمثال ما كنت اتقاضاه، فنظر لي وابتسم بحنان أبوي وقال لي كلاما لا أنساه ما حييت بأنني مخطئ في تفكيري، وبأن امامي مستقبلا زاهرا في البنك، لأنني الكويتي الوحيد الذي يعمل في الأعمال المصرفية المتخصصة، وأنني خلال سنوات قليلة سأصبح من كبار «ضباط البنك». وإن انتقالي للعمل كصراف سيزيد حتما من دخلي، مؤقتا، ولكني سأبقى صرافا إلى أن أترك العمل. ونصحني بأن استشير المدير التجاري في البنك حينها، يعقوب الجوعان، الذي أصبح تاليا معلمي وصديقي وشريكي في أعمال كثيرة، والذي أدين له بأفضال عدة، فذهبت له وأعلمته برغبتي في التحول من موظف مصرفي لصراف، فضحك من قراري الساذج، ولم يقل شيئا غير كلمة «نشوف بعدين»! وكانت تلك طريقته في تأجيل اتخاذ أي قرار لا يرغب فيه. وهكذا تحطمت أحلامي براتب كبير وعمل مريح على صخرة المعارضة، وبقيت في وظيفتي المتعبة والمتواضعة، بذلك الراتب المتدني!

وكما توقع الرجل الطيب والأمين، المرحوم العجيري، فقد تغير وضعي الوظيفي بالفعل خلال فترة قصيرة، واصبحت خلال أقل من اربع سنوات ليس فقط رئيسا لرئيس الصرافين، بل وأعلى من ذلك بكثير، وكل ذلك بفضل نصيحته القيمة.

ستبقى ذكرى هذا الرجل الكبيرة حية في ذاكرتي ولن أنسى فضله ابدا، ولا حادثة وقوفه معي في آخر مشكلة، أو محنة تعرضت لها في البنك في أواخر ايام عملي، وهذا موضوع مقال آخر.

* * *

ملاحظة:

لوجودي خارج البلاد، كالعادة، لم يتسن لي تقديم واجب العزاء بالفقيد لأهله وذويه، فالمعذرة.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top