سجدة الدهر

لقيت ابنة صديق عزيز وقريب حتفها، وهي طفلة، في حادث مرور مروع. ذهبت في اليوم التالي «للحسينية»، التي نادراً ما أرتادها، لتقديم واجب العزاء في مصابه. وبسبب أواصر المحبة بيننا، وعلى غير عادتي، أطلت الجلوس.

كان مكاني في الحسينية مقابلاً لمدخلها. وكان بإمكاني رؤية الداخليين والخارجين، وفجأة خُيِّل لي أن من دخل شخص أعرفه، كان يعمل قبل أكثر من ستين عاماً، مراسلا لدى والدي. وأتذكر أنه كان دائماً يقترض مني مبالغ صغيرة، خاصة مع نهاية الشهر، ولا يردها.

لا أدري كيف، لكنني وجدته يتجه نحوي، ويحملق في وجهي، بعينيه الضيقتين، ويلقي سلام من يشك في معرفة من يسلم عليه. وبدا وكأنه يتساءل بينه وبين نفسه عمن أكون، لكنني لم اكترث له، وسررت لأنه لم يعرفني، فلم أرغب في إحراجه، وهو في أرذل عمره.

بدأ عامل الحسينية بتوزيع أجزاء من القرآن على المعزين، فأخذ صاحبنا جزءاً، ولم اعرفه يوماً قارئا، وبدأ القراءة بصوت مرتفع، وفجأة رفع «العقال» من على رأسه ووضعه في مكان جلوسه واستدار باتجاهي وسجد أمام قدمي. ربما لم يطل سجوده كثيراً، لكنها كانت بالنسبة لي دهرا، لما تخللها من أفكار، حيث اعتقدت أن الرجل، وهو يقرأ القرآن، انقشعت غيمة النسيان عن ذاكرته، فتذكرني، وسجد لي ليشرح لي معاناته، وليطلب مني هذه المرة «سلفة أكبر». أو أنه سجد عند قدمي ليطلب مني أن أغفر له سيئاته، لعدم رده لسابق ما عليه من ديون، وانه نادم على ذلك! لكنه قام ومسح وجهه بكفيه، ووضع العقال على رأسه، واستوى جالساً وأكمل القراءة، وسط دهشتي واستغرابي، وبعدها بلحظات ترك مجلس العزاء مودعاً!

اثارني تصرفه، وقلت في نفسي، لا بد أنه كان سيطلب مني شيئاً، لكنه ربما خجل من فعل ذلك أمام الحضور، فغير رأيه!

بعدها بدقائق دخل صديق، وجلس بجانبي، بعد انتهائه من تقديم واجب العزاء، فأخبرته بما حدث معي، فلم يتمالك نفسه من الضحك، كتم قهقهة كادت تنفلت منه، ونظر لي باستغراب وقال «من صجك»؟، أي هل أنت جاد؟ ألم تعرف حقاً لم سجد أمامك؟ فنفيت معرفتي، واعترفت بجهلي. فقال إن جلوسي في ذلك المكان هو الذي سبب الإشكال. فظهري كان باتجاه القبلة، والرجل الذي سجد أمامي وباتجاهي، كان في الحقيقة يسجد باتجاه القبلة خلفي. كما أنه سجد لأنه قرأ في جزء المصحف الذي كان بيده كلمة «سجدة» أو سجود أو اي من مشتقاتها. وجرى العرف على أن من يقرأ تلك الكلمة، أو مشتقاتها، من القرآن الذي بيده، السجود فوراً باتجاه الكعبة!

وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك على جهلي، بعد أن اتضحت الصورة أمامي، وشعرت بالسعادة لقلة معرفتي بمثل هذه الأمور.


أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top