السيدة هيل والاجتهاد

 سكنت في ستينات القرن الماضي في لندن عند السيد والسيدة هيل، وكنت أدفع لهما مقابل المبيت ووجبتي الإفطار والعشاء. وبالرغم من أن المسز هيل كانت وقتها قد تجاوزت الثمانين من العمر، فإنها كانت تتمتع بصحة جيدة، ولم يكن طبخها، كإنكليزية مثالية (وهي ترجمة غير دقيقة لكلمة typical) سيئاً! وفي يوم عطلة، انتهزت خروج السيدة هيل لشراء حاجيات البيت، وقررت مفاجأتها بتنظيف صالة المعيشة وممرات الشقة! كما قمت بالتخلص من القمامة، ورمي ما تركته من موز أسود على رف المدفأة! عادت المسز هيل بعد ساعة، ونظرت إلى نظافة البيت وانفرجت أساريرها عن ابتسامة مقتضبة، ولكن ما إن وقع نظرها على رف المدفأة ولم تر الموز، حتى اختفت ابتسامتها، فنظرت لي متسائلة، فقلت لها إنه كان أسود وعفناً ويكثر عليه الذباب الصغير، فرميته في كيس الزبالة! فاستنكرت عملي، وقالت بصوت كالزئير، ما كان يجب عليك أن تفعل ذلك، فأنا لم أطلب منك أن تنظف بيتي في غيابي! لقد انتظرت لأسبوعين لكي ينضج ذلك الموز «اللعين»، ليكون بإمكاني الاستمتاع بتناوله من دون «طقم أسناني»!

حينها تذكرت المثل القائل: «ما كل مجتهد، مصيب»!

أكتب بانتظام، ومنذ فترة طويلة، مقالاً يومياً. وكوني ضعيفاً نسبياً في اللغة العربية، خصوصاً في ما يتعلق بقواعد الإملاء والنحو، فإن الكتابة بالنسبة لي ليست بالنزهة أو العمل الذي يمر بلا عناء، فقد كنت طوال حياتي إما مصرفياً، وإما رجل أعمال، ولم تكن لي يوماً علاقة بالأدب أو الصحافة. وبالتالي، ليس غريباً أن تبدر مني أخطاء، والعكس أقرب إلى الصحة! فليس كل مجتهد مصيباً، وبالرغم من عدم ضيقي بما يردني من نقد وعتاب، وحتى سباب، لخطأ ارتكبته في مقال هنا أو هفوة بدرت مني في مقال هناك، فإن القلة ربما لا تريد أن تعترف بأن الطريقة الوحيدة لعدم الوقوع في أي خطأ هو في عدم القيام بأي شيء، وهذا ما لا ننوي، حالياً على الأقل، الإقدام عليه، وبالتالي ستستمر هفواتنا وتتواصل أخطاؤنا، ولا نريد، ممن لديهم الوقت و«المقاقة» من القراء، غير لفت نظرنا إلى أخطائنا وهفواتنا، خصوصاً أننا نشعر بأن ما نقوم به من كتابة يومية لا علاقة له بصياغة أدبية بقدر ما هو قول رأي يمثل وجهة نظر شخصية، أو فكرة تدور في بال كاتبها، أو خاطرة تستحق أن تروى، وقد يكون في ما نكتب الكثير من الدقة أو العكس، فمن الاستحالة، بالنسبة لي على الأقل، أن أكتب 300 مقال سنوياً، وتكون جميعها خالية من السقطات والهفوات، أو «ما تخرش المية»، كما يقول المثل المصري! ونكرر، «ما كل مجتهد مصيب»، خصوصاً أن أغلبية من يكتبون لي منتقدين نادراً ما تخلو ردودهم من سقطات وهفوات لغوية وتاريخية عجيبة، ولكن غالباً ما يمنعني أدبي من الرد عليهم!

الارشيف

Back to Top