فسلام حتى مطلع القرن ما بعد المقبل

وقف المحارب الشيشاني ذو الثياب الرثة واللحية الكثة ينظر بتشف الى غريمه المستلقي على ظهره والذي اقر بهزيمته برمي سلاحه وقبعته العسكرية جانبا، وقد تدلت عشرات الاوسمة والميداليات العسكرية من سترته، وقبل ان يطعنه الطعنة الاخيرة لينتقم لنفسه ووطنه منه جال بما تبقى من نظر ضئيل في عينه الوحيدة، بعد ان تم اقتلاع الاخرى، فيما حوله واخذ يتفرس في حالته البائسة والقريبة من الموت، وتحسس بألم شديد مكان ذراعة اليسرى التي كانت تتدلى عن جانبه قبل ان تسقط على رجله، بعد ان اقتلعتها شظية طائشة من مكانها، ولاحظ كذلك اثر الجرح الغائر على فخذه الايمن من جراء ضربة خنجر والتي تقيحت بسرعة عجيبة وقد يضطر الى بترها في نهاية الامر واخذ ينظر من حوله فلم ير غير جثث محترقة هنا ومتعفنة هناك وفي كل مكان والدخان الاسود ورائحة العفن تملأ الجو برائحة كاتمة للنفسِ وشاهد عن بعد بيته العتيق وبيوت المدينة الاخرى وقد احترقت بكاملها وكذلك كان الامر مع كافة مباني البلدة ومحلاتها وشاهد الاشجار واعمدة الانارة، والتي لا يذكر انه رآها مضاءة قط في مدينته الفقيرة تلك، وهي مائلة متفحمة كأعواد ثقاب طال ابقاؤه مشتعلا، واحس بأنه الوحيد من اهله ووطنه من بقي حيا، او شبه حي ليكون شاهد عيان على ما يجره الغباء والجهل والغطرسة الفارغة من وبال ومصائب على امة ودولة وشعب بأكمله.

تسرع 'جعفر' داودييف الضابط السابق في الجيش الشيشاني واعلن استقلال بلاده عن اتحاد الجمهوريات الروسيةِ وكانت اول انجازاته اعتماد النشيد الوطني والسلام الجمهوري وشعار الدولة وتسمية اعضاء الحكومةِ وقبل ان ينتهي من استكمال 'الرتوش' هاجمت القوات الروسية بلاده واحرقت الاخضر واليابس واعادت تلك البلاد، المتخلفة والفقيرة اصلا، مائتي سنة الى الوراء بعد ان حطمت كامل البنية التحتية والفوقية فيها وبعد ان لقي اكثر من 50 الفا بمن فيهم 'الرئيس' الشيشاني نفسه مصرعهم في حرب الاستقلال والمتسرعة تلك.
لقد كانت محاولة الاستقلال عن روسيا محاولة اقل ما يمكن ان يقال عنها انها كانت محاولة ساذجة ومتسرعة ودون اي استعداد عسكري او معنوي او لوجستي كاف.
وكانت تعني في حال نجاحها بداية تفكك وانهيار الجمهورية الاتحادية الروسية والتي ستكون الضربة الثانية والاخيرة في نعش ثاني اكبر قوة في القرن العشرين، وهذا ما جرح ما تبقى من كرامة مخدوشة لدى الروس الذين خسروا الكثير في محاولتهم الاولى ونصف الفاشلة للسيطرة على شيشينيا.
وعليه يبدو من الصعب تصور موافقة الروس الآن، وبعد كل تلك الخسائر المادية والبشرية على استقلال شيشينيا، وسيفعلون المستحيل لمنع حدوث ذلك، ولكن لو تصورنا ان معجزة حدثت واعلنت الحكومة الروسية انسحابها من تلك الجمهورية وموافقتها على استقلالها فما هو الوضع الذي ستكون عليه تلك الدولة الجديدة؟؟.
يرجى العودة لبداية المقال لمعرفة الجواب.
ولعن الله من كان السبب، ومن اوهم بعض المقاتلين السذج بان يسيروا في طريق الاستقلال دون استعداد ولو بسيط مسبق، وان الامة الاسلامية بكاملها ستكون وراءهم!! وعندما ساروا وبدأت المعارك الحقيقية وسقط القتلى وتهدمت المباني تلفتوا خلفهم فلم يجدوا سوى شرذمة من المقاتلين اليائسين المطلوبين والمطاردين من دولهم ومن مخابرات الدول الكبرى، ولم تصلهم الا مجموعة من المساعدات الانسانية ممن رقت قلوبهم لحالهم وما هم عليه من بؤس وفقر ومرض!!!.
اما شيشينيا الوطن والكيان والشعب والبيئة فسلام حتى مطلع القرن الثاني والعشرين!!.
احمد الصراف

الارشيف

Back to Top