قراءة بين السطور

لا يود احد ان يعترف بأنه من الممكن ان تكون الطريقة التي يقوم فيها بأداء عمل أو طقس ما، هي طريقة قد تبدو مضحكة للآخرينِ كما لا نرغب في ان نعترف بأن بعض عاداتنا وتقاليدنا وكثيرا من المسلمات والامور البديهية في حياتنا قد تبدو غريبة، او مضحكة، او ربما مثيرة لسخرية الآخرين ويصعب عليهم تقبلها او الاقتناع بجدواهاِ ولا يود اي منا ان يضع نفسه في مكان الآخرين ليرى كيف ينظر العالم لنا، وما هي حقيقة فكرته عنا.
* * *
بدأت حركة التنوير او الاستنارة اليهودية والمسماة ب 'الهسكلاه' بين يهود اوروبا في منتصف القرن السابع عشرِ وكانت تنادي بأن على اليهود ان يحاولوا الحصول على حقوقهم المدنية الكاملة عن طريق الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، وان يكون ولاؤهم الأول والأخير لتلك البلاد وليس لقوميتهم الدينيةِ وكان قادة الاستنارة يرون امكانية تحقيق هذا الامر في حال نجاح اليهود في اكتساب مقومات الحضارة العلمانية والنجاح في فصل الدين عن الدولة.
واعتقد دعاة الاستنارة بأنهم اختطوا طريقا وسطا بين الانصهار الكامل في المجتمعات التي يعيشون فيها، والانفصال الكامل عنها والعيش في 'الغيتو'ِ وعليه، قرروا تركيز اهتمامهم على تعليم اليهود تعليما علمانيا، حيث كان التعليم القضية الاساسية لدعاة التنوير بسبب اغراق الجماعات الدينية في الرجعية والتخلفِ حيث كان ذهاب الابن مثلا للدراسة في الخارج بمثابة الخروج على الدين، واعتباره ميتاِ وكانت دراسة الهندسة او الزراعة او الطب او اية اعمال تتطلب تشغيل اليد والبدن من الاعمال المخالفة للشريعةِ وكان الاعتقاد السائد ان التلمود، او اي كتاب ديني آخر، هو الوحيد الجدير بالدراسة، وان الدراسة العلمية يجب ان تبقى ثانوية وتوظف في خدمة الدراسة الدينيةِ كما طالب دعاة الاستنارة باقتصار التدريس في مدارس التلمود على الحاخامات وحدهم، وطالبوا اليهود بارسال ابنائهم الى مدارس 'الاغيار'، اي غير اليهود، ليتقنوا الفنون العلمانية، كالهندسة والزراعة وتشجيع ممارسة الاعمال اليدويةِ ودافع دعاة الاستنارة عن حق تعليم المرأة، وافتتحت بالفعل أول مدرسة لتعليم الفتيات في روسيا عام 1836، وقد زعزعت هذه الامور من كيان السلطة الدينية التي كانت تتحكم في اليهود مبقية إياهم رازحين تحت نير الظلمات، مما جعل هذه السلطة تقاوم تيارات الاستنارة وتحاول افشالها، الامر الذي كان يضطر دعاة هذه الحركة الاصلاحية للجوء احيانا الى الحكومة حتى تفرض القيم العصرية، وبالذات في ما يتعلق بالنظام التعليميِ وكان دعاة الاستنارة يؤمنون بالعقل وبضرورة تقبل الواقع التاريخي، ولذا وجهوا سهام نقدهم الى التراث القومي الديني المغرق في الغيبية واللاتاريخية، وهاجموا الحركات والكتب الصوفية وحاولوا ان يدخلوا نزعة عقلانية على الديانة فأحيوا كتابات المفكر العربي اليهودي موسى بن ميمون الذي كان يطالب منذ العصور الوسطى بادخال التعليم العلماني على الدراسات الدينيةِ فحضارته العربية في الاندلس لم تكن تعرف الفصل بين علوم الدين وعلوم الدنياِ ويعد المفكر الالماني موسى مندلسون الذي سبق ان تأثر بأعمال بن ميمون أبي الاستنارة اليهودية(*)
والآن، هل نستطيع ان نقرأ شيئا بين سطور هذا المقال؟
(*) الأعياد والمناسبات لدى اليهود - غازي السعدي.
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top