غانياتي الحزينات

الرواية الجيدة ليست فقط حبكة وقصة مسلية تجذبك وتدفعك للاستمرار في قراءتها، بل هي قبل ذلك ادب واسلوب آسر.
في رواية 'ذاكرة غانياتي الحزينات' للروائي العالمي 'غابريل غارثيا ماركيز' نجد تجسيدا جميلا لهذا الكلام، فالقصة على الرغم من بساطة احداثها فإنها عميقة في معانيها، وهي تتمحور حول حياة ومشاعر صحافي عتيق بلغ التسعين من عمره دون زواج ووجد تسليته في الحياة مع الغانيات.
على الرغم من خلو القصة من الاحداث او الدراما، فإنه يفترض الا يثير قارئها كثيرا او تدفعه لانهائها، ولكني لسحر تعبيراتها وروعة ما تضمنته من صياغة لمشاعر رجل تسعيني مثقف عاش حياته طولا وعرضا، دفعتني الى ان اعيد قراءة الكثير من جملها لاكثر من مرة.
ففي فقرة منها يقول 'ِِ قلت لها: توجد لوحة على الجدار المقابل رسمها فبغوريتا وهو رجل احببناه كثيرا وافضل راقص مواخير وجد على الاطلاق وطيب القلب الى حد انه كان يشفق على الشيطان، لقد رسم اللوحة بورنيش السفن على كتان محترق الاطراف من طائرة انفجرت في جبال سييرانيفادا وبرياش صنعها بنفسه من وبر كلب'.
ويقول في صفحة اخرى 'في واحد من تلك الايام بقيت لتناول الافطار مع روسا، وكانت قد بدأت تبدو لي اقل هرما، على الرغم من الحداد الصارم والقلنسوة السوداء التي تصل حتى حاجبيها، كانت الوجبات التي تعدها مشهورة بروعتها، مع شحنة الفلفل الحار انزلت دموعي، ومع لقمة النار الحارقة الاولى، قلت لها مستحما بالدموع، لن احتاج هذه الليلة الى قمر مكتمل كي اصاب بحرقة في شرجي، فقالت: لا تتذمر، اذا كان يحرقك فلأنه لا يزال موجودا لديك.
ويقول في آخر صفحة من الرواية 'خرجت الى الشارع المشع، ولأول مرة تعرفت على نفسي، في الافق البعيد لقرني الاول في الحياة، كان بيتي الصامت والمرتب، في الساعة السادسة والربع، قد بدأ ينعم بألوان فجر سعيد، كانت داميانا تغني بأعلى صوتها في المطبخ، والقط الذي استعاد الحياة يحك ذيله بكعبي ويواصل المشي معي حتى منضدة مكتبتي، وهناك كانت مرتبة اوراقي الذابلة ودواة الحبر وريشة البجعة، في الوقت الذي اندلعت فيه الشمس بين اشجار اللوز في الحديقة، ودخلت سفينة البريد النهرية المتأخرة اسبوعا بسبب الجفاف الى المرفأ وهي تطلق الجؤار، انها الحياة الواقعية اخيرا، بقلبي الناجي، والمحكوم بالموت في حب طيب، في الاحتضار السعيد، لأي يوم بعد بلوغي المائة'!
رواية 'ذاكرة غانياتي الحزينات' قصة جديرة بالقراءة، مع الحرص على اقتناء طبعة 'شركة المطبوعات للنشر والتوزيع' فهي الوحيدة القانونية.

الارشيف

Back to Top