يوم سقط العقل

من المعروف ان غالبية المجتمعات المتقدمة والحضارات سقطت، عبر التاريخ، تحت ضغط قوى التعصب والتطرف الديني والعنصري، وهذه القوى لا تشبع أو تكتفي قبل تدمير كل ما يخالف معتقداتها وطريقة عيشها، حتى لو نتج عن ذلك خراب تام، ولو نظرنا الى ما قامت به بعض انظمة المنطقة من تقريب لقوى التخلف والتشدد الديني على حساب القوى والحركات السياسية المدنية الاخرى، لرأينا ان ذلك تم من خلال تشتيت اهتمامات الشعوب وتغييب عقول افرادها عن قضايا التقدم والحرية والمساواة، واشغالها بقضايا المثليين والنقاب والحجاب وطول اللحية وحف الشوارب والجن والغول وبول البعير وفضل استعمال المسواك ورضاع الكبر وجزيرة كبر وزيارة القبور وتفسير الاحلام والرقية والفئة الناجية والاخرى الكافرة وغيرها الكثير، والتي يكفي الانشغال بها للقضاء على اي امل بالتقدم والاخاء والمساواة مع بقية البشر والسير في طريق التقدم.
نكتب ذلك تعليقا على افتتاحية «القبس» الاخيرة، ومجمل التعليقات التي كتبت عنها، والتي شكلت بحد ذاتها دليلا على قوة الافتتاحية وصدقها وشفافيتها، كما بينت جميع الردود، بقصد من كتبها أو بغير ذلك، صدق ما ذكرته «القبس» من اننا اصبحنا قاب قوسين أو ادنى من الدولة الدينية، بعد ان نجحت قوى الردة والتخلف في الوصول الى اهم مفاصل اتخاذ القرار في الدولة والتحكم بها من خلال اتباعهم! ولو قامت جهة محايدة بوضع كشف بالانتماءات السياسية لشاغلي اهم الفي وظيفة ومنصب حكومي أو شبه حكومي أو مالي في الدولة لتبين لنا مدى تغلغل اتباع التيار الديني في مراكز اتخاذ القرار، ومن هنا كان مثيرا للشفقة ما ورد في افتتاحية صحيفة وفي بعض الردود الاخرى من ان غالبية وزراء الحكومات التي تم تشكيلها في السنوات الثلاث الماضية كانوا من المنتمين للتيار الليبرالي! وهذا ان صح قوله، وهو ليس بصحيح، فإنه لا يعني الكثير، فالعبرة لم تكن قط في حالتنا هذه بعدد وزراء تيار معين، بل ما بإمكان هؤلاء منفردين أو مجتمعين، الحصول عليه من مكاسب من «السلطة».
فالنفوذ الذي كان يتمتع به مثلا احمد باقر، المحسوب على التيار السلفي، عندما كان وزيرا في حكومات سابقة، لكي لا نتكلم عن الحكومة الحالية، لم يكن من الممكن مقارنته بوضع ونفوذ اي وزير آخر من التيار الليبرالي، هذا اذا صحت التسمية اصلا، في ظل سياسة اتخاذ القرار المتبعة في مجلس الوزراء، فالمرحوم احمد الربعي مثلا، والذي كان يوصف بالليبرالي(!) لم يكن بمقدوره وهو وزير للتربية والتعليم العالي، ومع كل ما كان يتمتع به من قدرات خاصة، تغيير مدير مناهج في وزارة التربية من دون موافقة مجلس الوزراء، وفي عهده «الليبرالي» الميمون مررت الحكومة قانون منع الاختلاط، كما اقرت اكثر القوانين المعارضة لحقوق الانسان والمقيدة للحريات من مطبوعات وتجنيس وتجمعات واحوال شخصية في وزارات «ليبرالية» عديدة ومجالس امة اكثر ليبرالية! وبالتالي فإن عدد النواب، أو الوزراء الليبراليين في اي حكومة ليس مقياسا على ليبراليتها، فوجود، ولو قلة من ممثلي السلف أو الاخوان في اي حكومة كفيل بادارة دفتها باتجاهات محددة، والامثلة اكثر من ان تحصى!
مؤسف ان الرمزية في افتتاحية «القبس»، والتي كانت جوهر رسالتها، لم تستوعبها الردود او تتنبه لها، فهدف الافتتاحية لم يكن حتما اعلان خروج «القبس» ومجلس ادارتها عن ثوب العقيدة، كما حاول اصحاب الردود الايحاء به والتركيز عليه من خلال سرد امثلة بائسة، بل هدفت، من ضمن امور عديدة اخرى للتحذير من استمرار احتفاظ احزاب السلف والاخوان بالكويت رهينة لديهم، وان الوقت قد آن لان تعود الدولة الى صبغتها المدنية وتخلع عنها ثوب الغلو والتعصب والتناحر الطائفي، وان تكون وطنا للجميع، وهذا لا يمكن ان يتم بغير عودة الكويت الى وضعها المدني السابق.
ويكفينا، للتدليل على ما سيصيب الكويت من شلل وتخلف، فوق ما هي عليه من شلل وتخلف، ان هي سقطت تماما في حضن قوى السلف والاخوان أو غيرهم، ان ننظر في حال ومآل الدول التي لجأت الى تطبيقات الشريعة، حسب تفسيراتها المغالية في تطرفها.

***
ملاحظة: كتب احد الذين قاموا بالرد على افتتاحية «القبس» مقالا قبل سبع سنوات ذكر فيه ان «السبخة» موقع منبسط خارج المدينة المنورة يصلح لاقلاع الطائرات وهبوطها لهذا انشئ فوقه مطار المدينة، وان هناك حديثا ان المسيح الدجال سيحاول دخول المدينة المنورة من منطقة السبخة وانه سيجد على بابها ملكين فيرجع من حيث اتى، وتوصل كاتب المقال من الحديث الى نتيجة ان المسيح الدجال، عند ظهوره، سيستخدم الطائرات لدخول المدينة!! ونص المقال موجود لدينا لمن يود الاطلاع عليه، المهم ان كاتب هذا المقال، وصاحب هذا الفكر المستنير، يشغل عدة مناصب تنفيذية واشرافية واستشارية داخل الكويت وخارجها، ولو لم يكن منتميا لحركة دينية معروفة لما وصل الى عشر ما وصل اليه، وهنا يكمن بؤس الدولة الدينية وخرابها وخطرها، تلك الدولة التي يحاول الكثيرون جرنا لها، وما حاولت الافتتاحية التحذير منه.. فهل سقط العقل من رؤوس البعض بحيث لم يستوعبوا مضمونها؟
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top