موسيقى حائط المبكى

في آخر يوم عمل لصحافية بريطانية في القدس، طلبت مقابلة شخصية مميزة، فقيل لها ان عليها لقاء «راباي» يصلي منذ سنوات طويلة أمام حائط المبكى، وعندما قابلته سألته عما يفعله أمام الحائط منذ سنوات، فقال انه يصلي منذ أربعين عاما من أجل السلام بين اليهود والفلسطينيين والعرب، ويصلي من أجل أطفال يهودا والسامرة، وأطفال القدس ورام الله وغزة وحطين، وكل مدن فلسطين، يصلي من أجل أطفال العرب وأفريقيا والعالم، ومن أجل السلم والوئام والاستقرار ونهاية الحروب، وعالم من غير أسلحة دمار شامل! وهنا سألته الصحافية عما تحقق من صلواته: فنظر إليها باستغراب، وكأنها لا تفهم، وقال: ألا ترين أنني أتحدث مع حائط من الحجر؟!
تذكرت هذه الطرفة وأنا أستذكر كل ما كتبناه، وعدد من الزملاء والزميلات، عن فضل الموسيقى وأهميتها في حياة كل واحد منا، ومدى تأثيرها في خلجات أنفسنا، ودورها في الحروب والغوص والتجارة، وتذكر الأهل والحنين إلى الوطن، والتفاعل مع الروح الإنسانية العالية، التي تجرد منها البعض، وأصبحوا أقرب إلى الأغنام منهم إلى البشر، وذلك في معرض دفاعنا عن موقف وزارة التربية من تدريس مادة الموسيقى في المدارس الحكومية، فموقفنا جميعا يشبه إلى حد كبير موقف ذلك الراباي، وهو يتحدث مع حائط مبني من الصخر لا يفقه شيئا. فالمسألة لا تتعلق بمنطق لكي يكون العقل هو الحكم، ولا بذوق عند من لا يعرفه، ولا بتربية مع من خلت الأصوات المرحة والجميلة، دع عنك العالمية والسامية، من حياته، بل الأمر يتعلق بقناعات ومواقف لا تعرف غير شد أحزمة المتفجرات وتفجيرها في الرضع والأمهات، ابتغاء ملاقاة الحور العين أو ما هو أعلى في طرفة عين!
إن العيب لا يكمن في عقول وأنفس المعترضين على تدريس الموسيقى في المدارس الحكومية، ولا في عقول من تظاهروا مطالبين بمنع «سماعها» دع عنك تدريسها، لأبنائهم، بل بتلك المناهج البالية التي طالما كتبنا مطالبين بتشذيبها من البالي من الأفكار التي تخرج هكذا عقليات لا تعرف غير تحريم ما تشتهي وتحليل ما ترغب، متذرعة بمقولة الحرام بين والحلال بين.
نعود ونقول، ولايزال في الوقت متسع، بأن ما نحصده الآن من مواقف متشددة، ما هو إلا نتيجة ما درس في مدارس الحكومة من تخلف. وما سنحصده ونراه في السنوات العشر أو العشرين المقبلة، هو ما يدرس الآن في مدارسنا ومعاهدنا، والخيار أمامكم، إما اللحاق، ما أمكن، بركب بقية الأمم، وإما الرضا بالبقاء في الحضيض، مع غربان البين، رغبة في إرضاء من لا يرتوون من أي رغبة!
ملاحظة: كتب من كنا نعتقد برجاحة عقله أنه درس الموسيقى سنوات في المدرسة، ومع هذا لم تعن له غير «تاتا فافا تراتا»، ولهذا فهي، أي الموسيقى، لا تعني شيئا!

الارشيف

Back to Top