سمكة ماريا ودعاء السفر

يتساءل المفكر العراقي حسين سعدون: لماذا انتكست اليونان، منذ انتهاء عصر حضارتها القديمة؟ ولماذا برزت دولة مثل أمريكا لا يزيد عمرها على 400 عام، وأصبحت الأولى في العالم، وتخلفت اليونان؟ ولماذا تقدمت، نسبيا، كل الدول الإسلامية، غير الناطقة بالعربية، وتخلفت كل الدول العربية؟

يجيب بأن التراث كبل اليونان وأعاقها عن التقدم. وعدم وجوده في حياة الأمريكيين، وبنفس القدر، كل العالم الجديد المتقدم، سهل حركتها، فانطلقت وتقدمت.

أما في ما يتعلق بالدول الإسلامية، فقد كانت بمثل وضع أمريكا! فأكثر من %90 من كتب التراث الإسلامي لم تترجم للغاتها، أو على الأقل لم تنتشر بين شعوبها، التي اكتفت بالقرآن كتاباً، بنصوصه الدلالية والمجازية، فتقدمت. بينما لعب التراث دوراً خطيراً في العالم العربي بحيث ساهم في تجذر خلافاتها نتيجة لتعدد تفسيراتها للنص، وانشغالنا به، غير مدركة أن التراث نتاج فكر بشري، وعاجز عن أن يحل مشاكل العصر. كما أن كتب التراث لا تنطق بل البشر هم الذين «يُنطقونها».
* * *
أبدى أكاديمي معروف ملاحظة على دعاء السفر على الطائرات، وذلك في ندوة ثقافية عُقدت قبل فترة في دولة خليجية. اعترضت زميلة على ملاحظة الأكاديمي، واعتبرته تجنياً على التراث.

انتقادها ذكرني بقصة واقعية سبق أن تطرقت لها تتعلق بالأمريكية ماريا، حيث لاحظ ضيف أسرتها أنها كانت تحرص على قطع ذيل السمكة ورأسها قبل وضعها في الفرن، فسألها عن السبب، فقالت إن هذا ما تعلمته من والدتها، وبسؤال الوالدة، قالت إنها تعلمت ذلك من أمها، وبسؤال الجدة عن السبب أجابت بكل بساطة، بأن الفرن في بيتها كان صغير الحجم!
* * *
الزميلة التي انتقدت صديقنا الأكاديمي الكبير على اعتراضه على دعاء السفر أو الركوب، ما كانت ستعترض له، لو كانت تعرف الحقيقة وراء بث الدعاء على الطائرات، والذي أصبح مع الوقت «طقساً مقدساً لا يجوز انتقاده»! فالموضوع برمته لا علاقة له بالتراث ولا بالتباكي عليه. فقد تأسست الكويتية قبل سبعين عاماً، وبقيت لنصف قرن، أو أكثر دون «دعاء السفر»، وفجأة طرأ على بال أحد الطيارين قراءة دعاء السفر من خلال مكبرات الصوت، في الطائرات التي يكون هو قائدها، واستمر الوضع كذلك لفترة، وبين شد وجذب وانتقادات، قرر مجلس إدارة الكويتية أن يعمم بث الدعاء المسجل، على كل أسطول الشركة!

هذه هي قصة دعاء السفر على الكويتية، وواضح أن الأمر لا يتعلق بتعليمات سماوية ولا بنصوص دينية، بل بقرار شخصي اتخذه كابتن طائرة، وأصبح مع الوقت طقساً متبعاً، كسمكة ماريا، من غير رأس ولا ذيل!

ولا أدري لمَ أقتصر الدعاء على الطائرات، وهي أكثر وسائل السفر راحة أمان على الإطلاق، ولم يعمم ليشمل البواخر والقطارات والسيارات والدراجات، بنوعيها، وحتى دواب السفر؟
* * *
الدعاء ليس هدفه منع وقوع الحوادث، وهو حتماً لم يمنع وقوعها، بل يقصد به إدخال الطمأنينة على قلب المسافر، خاصة في بيئة مليئة بالمخاطر. وبالتالي من الأفضل طباعة الدعاء على بطاقات، بأكثر من لغة، ووضعها في جيوب المقاعد، لكي تعم فائدته المعنوية ركاب الطائرة، من عرب وعجم.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top