نزار.. وعبود

مارون عبود، أديب وناقد لبناني مسيحي، أغنى العربية بدراسات عديدة، تقول عنه الزميلة المصرية نسرين مهران:

من يقرأ له يجد عالماً من المُتعةِ يصعُب عليه تصويره ووصفه وإن مَلَك خَطابة صعصعة بن صوحان وبلاغة ابن معد سحبان، وهو يتنقل بخُطًى هادئة بين خمائل البيان الرفيع والأسلوب البديع، والعبارة الساخرة والطرفة النادرة. العروبة عنده لم تكن عِرقاً فقط، بل عقيدة وفكر ولغة، تخطّى فى خياله التخوم والمعالم فكانت حريّته أثمن شيء عنده، وآراؤه أغلى شيء لديه.

يقول لابنه، محمد، في أبيات شهيرة:

فإذا ما متُّ يا بني في غدٍ

فاتّبع خطوي تفُز بالأدبِ

وعلى لحديَ لا تندب وقُل

آية تزري بأغلى الخُطَبِ
* * *
كان مارون متسامحاً لا يعرِف التعصُّب إلى قلبهِ سبيلا، وحاربه قولاً وفعلاً، وأطلق أسماء عربية إسلامية على أبنائه.

توفي مارون في 1962 عن 76 عاماً.
* * *
كتب يوماً مارون للشاعر نزار قباني (1923–1998) ناقداً طريقته في صياغة قصيدته عن الفرنسية جانين:

تأخرت عن موعدك الأخضر قليلاً. كان عليَّ أن أسبق الشمس إلى ستائرك فلا تؤاخذنيَ، لأن الكتابة إليك رحمة وسلام واللعب بالحرف بالفاصلة السكرى، يحتاج إلى حد أدنى من السكون وهذا ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه.

هل نبدأ الآن؟ هل تفتح لي قلبك؟

يعتبر بعض الناس أنفسهم سعداء إذا وُجدوا في امتداد زمني واحد مع واحد من هؤلاء العباقرة الذين أعطوا الإنسانية تراثاً لا تزال الأرض تشرب منه وتسكر، الذين عاشوا في عصر بيتهوفن وموزارت وتولستوي أو ليوناردو دافنشي أو غوغان أو رودان أو فان كوخ، كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم من رفيعي الأقدار.

ويوم يجيء الدور إلينا ويسألنا سائل: وأنتم يا شعراء الفترة الممتدة من عام 1940 صعوداً إلى اليوم... من هو هذا الكبير الذي كان يقيِّم آثاركم، ويزن الريش النابت في أجنحتكم، ويدوزن الأنسجة الطرية في حناجركم؟ يوم يواجهنا سائل بمثل هذا السؤال سنقول له من دون أدنى تردد: «كتبنا شعراً في عصر مارون عبود، وعلى محكّ هذه السنديانة الماردة برينا أقلامنا وتركنا أسماءنا، «سنديانة»، نعم، وجدتُ الكلمة، من هذه السنديانات التي تفتح زنودها لمئات العصافير الزائرة لا تبخل على واحد منها بخيمة ظل، أو سرير ورق أخضر، أو زوادة قش تحمِّله إياها قبل أن يذهب.

من هنا ينبع مجد السنديان، مجدك يا أستاذي، يا مضيف الأجنحة المليسة الزغب، يا حاضن الشرانق الحبلى بألف خيط حرير، يا مالئاً مناقير العصافير الهابطة إليك زهراً ورمَّانا وحبَّات كرز. قلَّ أن عرف الأدب العربي ناقداً تطهَّرت ريشته من سواد الحقد، وتبرأ قلمه من حليب الكراهية العكر.

كل معاركنا الأدبية هي أشبه بمعارك الدجاج والديكة، ريش نافش، ومخالب تغرز في الأعناق، ومناقير استبدلت بالغناء العض وفقء الأعين. ويظهر أننا لم نتحرر حتى اليوم من أسلوب النتف والسلخ في نقدنا. فما زال الدجاج الناقد لدينا كثيراً وما زالت الغرائز الدجاجية هي السلوك المميز لأكثر نقادنا.

فلأول مرة يتحرر الحرف على يدك من رجس الشتيمة، ليصبح أداة عبادة، لا مطرقة حدادة...

لأول مرة، نعرف معنى التسامح، معنى الغفران، معنى التعايش الفني... إلخ».

فرد عليه نزار: أستاذنا الكبير، ما قلته في شعري كرامة لشعري، حياة ثانية للحروف التي عاشت معي حياتها الأولى.

لقد عاشت «قصائدي» بين يديك كما تعيش البنت في بيت أبيها، حلوى وأثواب و«أشيا أُخَرُ» ولكن لماذا أنت غاضب على جانين؟ متمسك بالوزن والموازين؟ فجانين هذه تعيش في أحد أقبية سان جرمان، لا في برقة ثهمد، إنها تلبس البنطلون، والخفَّ المقطع وتلثغ بالفرنسية وتمزق ثوانيها وتهبها لليل، لجحيم موسيقى الجاز، للاشيء. إنها تعيش حضارة معينة، ونحن كصيَّادي صور، لا يهمنا أن تكون الحضارة حضارة قلق وسواد وتشرّد، أو يكون القبو الذي ترقص فيه كقبو الماعز، كلُّ مايهمنا أن نرسم جانين هذه في إطارها الزماني والمكاني، أن نفاجئها وهي في وسط حلبة الرقص ترمي خصلة من شعرها لليل، وخصلة لله...

إنني أعالج بقصيدتي «وجودية» فلسفةً كاملة هي الوجودية، وأحاول بلقطات صغيرة أن أخلق الجو لقارئ لم تقدمه قدماه إلى هذه الأقبية. لذلك كان لا بد من تغيير المخطط التقليدي للأداء. وكان من المستحيل عليَّ أن أكتب عن جانين، والجاز، والمونمارتر، بالبحر الطويل، أو البسيط، لأن صلة الموضوع بإطار العرض حقيقة لا يمكن الفرار منها.

قلتَ في مقالك القيم إن بحور الخليل هي أنغام الحدود وموسيقاهم الكلامية، وإن القافية هي وقفة نغم على حدود اللانهاية، كما قلت إن الخليل هو واضع النوطة الموسيقية لأهازيجنا وأغانينا.

كل هذا كلام حسن ولكن له تتمة. لم يعبد أحد موسيقى الشعر عبادتي لها، فهي أساس البناء الشعري لدي، ولكني لا أتصور موسيقى الشعر إرثا أبديا لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، لا أتصورها حكما من أحكام محكمة التمييز لا يقبل الطعن أو الاعتراض.

إن كون «البزق» أو «الناي» من تراث الأجداد لا يمنعني أو يمنعك من أن نطرب لآلة مستحدثة كالبيانو، أو الكلارينيت، أو الأوبوا، أو أن نقف موقف المتعبدين من «بولونيز» شوبان وسمفونية بيتهوفن الريفية و«بحيرة بجع» تشايكوفسكي...

على نفس المقياس أقول: إن كون الخليل بن أحمد هو الذي وضع النوطة الموسيقية لأهازيج الأجداد، لا يمنعني من جانبي أن أضع النوطة الموسيقية للإطار الحياتي الذي أعيش فيه. بل لا يمنع أي فنان من بلادي أن يبدع سمفونيته الخاصة فيحذف نغمة، ويضيف نغمة، ويعمِّر كوناً شعرياً بألف شكل وألف أسلوب.

الفن الشعري كالفن المعماري يمكن فيهما توليد أشكال لا حصر لها، فكما أن الفن المعماري يعتمد على وحدة أساسية، هي الحجر لإخراج ألوف التصاميم، فإن بإمكان الشعر أن يأخذ الوحدة الأساسية في بناء القصيدة العربية -أي التفعيلة- لتوليد أشكال شعرية لا نهاية لها...

إنني لا أدعي كمال «اشعاري» فلا شكل نهائي في الفن، وإنما أقول إننا نعطي الصلصال القديم ملامح جديدة. لا تزال أيدينا في الطين، ولا تزال أزاميلنا تبني وتكسر، تضيف وتلغي. وربما مرَّ وقت طويل قبل أن تفرض هذه الأشكال نفسها على الذوق العربي. ولكن هذا يجب ألا يثنينا عن إتمام المحاولة، كما أن النقاد يجب ألا يتعجلوا الحكم على هذه المحاولة التي لم تتجاوز عمرها بعض سنوات. لأن من هذه المحاولات ما نجح فعلاً وبدأ يجد استجابة لدى الجماهير العربية.

أنت في تفكيرك مدهش حقاً، والأدهش من هذا كله قدرتك الفائقة على تكييف ثقافتك العريضة وذوقك الرهيف مع اختلاف الفصول واتجاهات رياح الفكر والذوق، أما قلمك فهو أصبى من الصبا نفسه، أحلى من دفقة العافية.

الذين وصلوا إلى سنك من أدبائنا لا يزالون في قاعات المجامع العلمية الرطبة، يعانقون أكياس الماء الساخن، ويشربون كؤوس البابونج، ويتعاطون أدوية الروماتيزم، وينظمون قصائد موسمية تجلب الروماتيزم من مسافة ألف ميل...

أما نحن الذين عاصرناك وأحببناك، ومسحنا مناقيرنا الصغيرة بجذعك الرحيم العظيم، وسرقنا الحَبّض من جيوبك الممتلئة، فما رددت منقاراً ولا آذيت جناحاً.

أما نحن فسوف نقول لمن يسألنا عن خصائص شعرنا وطابعه: «كتبنا شعراً في عصر مارون عبود...».

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top