لا يزال في خاطري

على الرغم كل الندوب والجروح، وما سبقها من طعنات وخيانات وخراب وحرائق ودمار وقتل وتشريد وتشليح وسرقة وتدمير، فإن لبنان لا يزال يسكن.. مطمئناً، في خاطري!
***
منذ عام 1956 ولبنان يسكن في داخلي. عاصرته في عز ازدهاره دولة جاذبة صارخة الألوان، محبة للغير مرحبة بالجميع، تشفي مستشفياتها المريض جسدياً، والسقيم نفسياً، وتعلم جامعاتها من يريد التقدم والتطوير، وتغذي مطاعمها وحاناتها من يود الاستزادة من متع الحياة، ويوفر هواء جبالها ونسيم صنوبرها الأكسجين للرئة السليمة والعليلة، وتنافس فواكهها ثمار أفضل الدول، ويطيب العيش فيها صيفاً وشتاءً، وكانت قبلة الفنانين وجنة الناشرين والمؤلفين وميدان الباحثين عن الشهرة، سواءً من خلال قنواتها أو صفحات صحفها ومجلاتها.. ويطول الحديث عنها وعن مغرياتها.

ثم بدأ الوهن يضرب في اطراف الدولة، مع ارتخاء الأمن فيها بسبب زيادة الأموال بين أيدي المواطنين واللاجئين وما بين هذا وذلك، وانتشار الفساد، وتسارع اللجوء لها كملاذ، وارتفاع أعداد جواسيس مختلف أجهزة المخابرات، فكانت لهم ممراً وأصبحت مع الوقت مقراً. وكان البعث ينتقم من عبدالناصر في شوارعه، والأخير يغتال مناؤيه في أزقتها، وإسرائيل تقتنص زعماء فلسطينيين أفراداً وجماعات في شقق بناياتها، ثم جاء اتفاق القاهرة ليدق الإسفين الأول في غرق سفينة الدولة التي لم يعرف القانون طريقاً لها، وللادولة، التي أصبحت بالفعل «حارة كل من إيده إله»، وأصبح المراقبون يرون لبنان، كعزيز في مقتبل العمر، وهو يعاني نتيجة إصابته بمجموعة من الأمراض والكسور التي لا شفاء منها.. ولكن يبقى الأمل في معجزة ما!

من ذكرياتي القديمة في لبنان، وأنا طفل، صوت القطار الذي أيقظني من نومي صباح أول يوم لي هناك، وأنا في غرفتي الصغيرة في بيت البدر في بحمدون الضيعة!

كانت تلك أول مرة أسمع فيها صفيره المدوي، الذي ارتبط مع الوقت وإلى الأبد في ذهني مع لبنان وأرزه وصنوبره.

بعدها، أصبحت أحرص على القيام فجراً، والتسلل من البيت لأقف بعيداً عن قضبانه، خوفاً منه، منتظراً مروره، مستمتعاً ومستغرباً من تقلبه، وحجمه وحمولته الثقيلة، وهو يتهادى ذات اليمين وذات الشمال، ويشق طريقه الوعر بصعوبة ولكن بإصرار. استغرق الأمر مني بضعة أيام قبل أن أمتلك ما يكفي من الشجاعة لأقترب أكثر من خط سيره، والتجرؤ يوماً على لمسه هو يمر بالقرب مني، وكأني مراهق خجول يضع يده حول خصر حبيبته، أو كأنني ألمس جسد حيوان خرافي غريب يخرج فجأة من نفق في الجبل، نافثاً من فتحتي أنفه الواسعة دخاناً أسود كثيفاً!

على الرغم من الصيفية كانت طويلة، فإنها كانت تبدو أحياناً وكأنها تمر سريعاً، وأحياناً، ببطئ جميل. كنت أُترك نفسي أتجول بين بساتين الضيعة، أقطف التفاح من شجيراتها الجبلية، أو الكرز من أخريات، وكان الشعور ببرودة الصباح الباكر يجبرني غالباً، ونحن في أوج أشهر الصيف، لتوقف تجوالي على غير هدى، والعودة للبيت، قبل أن يفتقدونني!

حتى في تلك الأيام، وفي منتصف القرن الماضي، كانت أسرٌ كويتية كثيرة تمتلك بيوتاً في لبنان، أو كانت تستأجرها من أصحابها، كما كان يفعل والدي، سواء في حمانا أو فالوغا أو بوحمدون، الضيعة. وكان أصحاب هذه البيوت في الغالب من كبار السن، الذي تركوهم أبناؤهم وهاجروا، أو ذهبوا للعمل في بيروت أو خارج لبنان.

ذكريات جميلة لا تنسى ولا يقضي عليها حتى ألزهايمر!

أحمد الصراف

a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top