تجاربي والتاريخ

تعلمت من تجاربي، ومن ردود الفعل على مقالاتي، خصوصاً الأخير منها وما تعلق بحرق الأصابع، أن من أصعب الأمور على الأغلبية الاعتراف بالخطأ، وكراهيتهم لمجرد التفكير بأن الطرف الآخر قد يكون على حق. وكما قال «نيتشه»: لا تعتقد أن قول الحقيقة سيقربك من الناس. الناس يحبون ويكافئون الذين يخدعونهم بالأوهام. ويبدو أنني كنت، بصراحتي المفرطة، على خطأ.. طوال الوقت.
***
في نص كتبه العراقي «كاظم فنجان الحمامي» قبل عشر سنوات في جريدة المستقبل، قال: قبل أن ترجموني بحجارتكم التي قتلتم بها الأبرياء. وقبل أن تأخذكم العزة بالإثم فتشتموني بلعناتكم التي لا ترحم، أقول لكم وبصريح العبارة، إننا من الأقوام المشلولة المتخلفة المقهورة المدحورة المتخاذلة، وهذا ما أثبته واقعنا المر المعاش بالأرقام والدلائل والشواهد.

نحن قوم نصدق الكاذب ونكذِّب الصادق، نأتمن الخائن ونخوِّن الأمين، نشجع الجبان حتى يتمرد، ونخذل الشجاع حتى ينهار، ونحارب الناجح حتى يفشل، ونستفز الحليم حتى يفقد عقله، نكره التنظيم ونبغض النظام، نرى المنكر فنصفق له، ونؤازر الباطل فنسانده، ونقف مع الطغاة ضد الحق وضد الخير وضد الصلاح!

الاختلاف عندنا خلاف، فانقسمنا إلى مجاميع متناحرة متشاجرة متنازعة متقاتلة تميل إلى التفريق والتفرقة، والتمزيق والبهدلة، التطرف عندنا هواية، والتعصب غواية، والتنافر موهبة، والثرثرة منطق، والدين فتنة، هذا سني، وهذا شيعي، وذاك سلفي، وهذا صفوي، وهذا وهابي، وهذا صوفي، وهذا زيدي، وهذا حوثي، وهذا أحمدي، وهذا علماني، وذاك شيوعي، وهذا قومي، وذلك إخواني، وعدناني وقحطاني، وشمالي وجنوبي، وأهلاوي وزملكاوي..

تخندق بعضنا الآن في خنادق معركة «صفين» ضد خليفة المسلمين، وتجحفل بعضنا مع الحجاج، واختار بعضنا الوقوف مع أبي العباس السفاح، بينما خرج المتمردون مع الخوارج، وسار البتروليون خلف سراب الناتو، وركع المتآمرون تحت أقدام البنتاغون، فهذا يسعى للأمركة، وذاك يسعى للتفريس، وغيرهم يحلمون بالتتريك، وجماعة تواسي السفارديم عند حائط المبكى، نقلب الدنيا رأساً على عقب.

تاريخنا مزيف من الجلد للجلد، وصفحاته ملطخة بدماء الأبرياء والضحايا، واقرؤوا كيف استعمرونا باسم الدين، وصادروا حقوقنا باسم الدين، واستباحوا بلادنا بالطول والعرض باسم الدين، ثم باعونا في سوق النخاسة السياسية، واقرؤوا كيف كفّروا علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والفلك والفلسفة، واقرؤوا كيف أنجب التاريخ أكثر من عشرين نسخة لابن العلقمي، اشتركوا كلهم بتسليم مفاتيح بغداد للمغول والتتار والفرس والأتراك حتى حكمتنا دولة الخروف الأسود، ثم جاءت من بعدها دولة الخروف الأبيض..إلخ.
***
مؤسف ما نراه على الساحة السياسية في هذه الأيام من تناحر وتنابز، بحيث أصبح حتى الليبرالي العلماني من أمثالي مضطراً، بين الفترة والأخرى، للدفاع عن مواقفه ومبادئه، فقط لأن الطرف الآخر، الذي لا يزال يكن له شيئاً من الاحترام، مستمر في نعته بصفات وألقاب لا يمت بصلة لها.

افتحوا قلوبكم وصفوا نواياكم، واتركوا التاريخ الملطخ بالدماء والأحقاد خلفكم، وانظروا للمستقبل وتحلوا بالتسامح، فليس لنا غير هذا الوطن الصغير، الذي سيتسرب أمانه واطمئنانه وثروته من بين أصابعنا كالرمال الناعمة، وسنبقى بعدها بغير شيء غير الحسرة على مُلك لم ننجح في الحفاظ عليه.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top