أبو حنيك والمواطنة والبداوة

أبو حنيك والمواطنة والبداوة (2)
بعد العيش لآلاف السنين في صحار قاحلة، بكل ما يعنيه الوصف من قسوة وجلافة، تغيرت حياة سكان المنطقة نتيجة عوامل عدة أهمها:
الأول: سيطرة الملك عبدالعزيز بن سعود على الجزيرة العربية، مستعينا بإخوان الجزيرة، وتأسيس مملكته، ونجاحه، بعدما استتب الأمر له، في القضاء على الإخوان، بعد ان أصبحوا يشكلون عبئا عليه، وقام بسجن وتصفيه كبار قادتهم، واجبارهم على "التحضر" من خلال مشاريع "الهجرات". وبالتالي قبل البدو، ولأول مرة في تاريخهم، الخضوع لسلطة مركزية، وهجر حياة الرعي والتنقل والغزو، والاندماج في مجتمعات مدنية، وترك حياة الصحراء لرفاهية العيش في المدن الحديثة.
*****
ثانيا: ساهم ظهور البترول في نجاح جهود الملك عبدالعزيز، والدول الأخرى، في توطين البدو، وبناء المدن الحضرية لهم وتوفير مئات آلاف الوظائف لأبنائهم.
ثالثا: تزامن كل ذلك مع وجود سلطة في العراق، بغطاء بريطاني، وتكليف الحكومة العراقية للضابط البريطاني "جون غلوب" الشهير بأبو حنيك، مهمة بناء علاقات مع قبائل العراق، وغالبيتهم من شمر والظفير، من رعاة الأغنام والماعز، وتوفير الحماية له من غزو القبائل الأخرى، الأمر الذي كان يشكل مصدر قلق شديد لهم واحراج للحكومة العراقية، العاجزة عن حمايتهم.
*************
لم يعشق "غربي" حياة البداوة ويندمج فيها، ويعرفها عن كثب، ويعرف قبائلها وعاداتهم ولهجاتهم، كما فعل الضابط البريطاني "جون باغوت غلوب"، أو غلوب باشا، الشهير ب"أبو حنيك".
حارب غلوب في فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، ثم نُقل إلى العراق العام 1920، عندما كان تحت الإنتداب البريطاني، واستقال من الجيش وعمل مع الحكومة العراقية.
وضع غلوب كتابا بعنوان "حرب في الصحراء" تعود أحداثه لما قبل 100 عام. وبالرغم من كل اتهامات العمالة والتجسس التي طالته، بعد ان انتقل من العراق للعمل ضابطا في الجيش الأردني، ثم يصبح العام 1939 قائدا له، ويحارب في فلسطين ويهزم، إلا أن لا أحد استطاع أن يثبت عليه تهمة العمالة. كما كان عشقه للبدو وللعرب خالصا لا شك فيه.
يقول غلوب في كتابه الذي ترجمه باقتدار الأستاذ "عطية كريم الظفيري"، وراجعه "فارس" ابن غلوب، الفقرة الرائعة التالية:
إن طبيعة حياة أهل البادية تتطلب قليلاً من الوقت للعمل الذهني الصارم، وتتيح كثيراً من الوقت للتأمل والتفكير. فأوقات الفراغ الكبيرة واتساع الصحراء وبساطتها ومطاردة الموت الدائمة للإنسان، كل ذلك جعل العرب يتأملون في وجود الله ويفكرون بمعنى الحياة .
وعن سمو النفس البدوية يذكر غلوب أنه مهما كان سمو النفس في وسط الجزيرة العربية في التأمل في قدرة الله والتفكير في الموت، إلا أن سرعان ما يدفعه ألم الجوع الحاد المفاجئ ليثبت وجوده، فتنتهي "حركاته الدينية النبيلة" إلى سعي للسلب والنهب!
****
كما كان غلوب يرى أن حياة البدوي "كانت" تتسم بالغطرسة والوحشية والطمع والعنف، والنزوع للتعالي نحو غير البدو، كونهم أدنى منزلة. فالفلاحين وسكان المدن يلقون معاملة وحشية على أيديهم إن ظفروا بهم في غزوة ما. ولكن غلوب يرى أننا لو نظرنا إلى الجانب الآخر من سلوكه، فسنجد النبل والكرم والرومانسية في حياته، وهذا ربما ما جذبه لهم. كما أن إحدى الخصائص المميزة للبدوي التقليدي صراحته وغياب المراوغة في تصرفاته.
ويبدأ البدوي شعره بالدعاء إلى الله أن يوفقه في سعيه، وفي مهمته في البحث عن الغنائم وسلب الآخرين، وحتى الفتك بهم، لتستمر حياته(!!)
وإلى مقال الغذ.
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top