موديل السوبرماركت

يقول الأكاديمي والباحث السعودي توفيق السيف إن الأستاذ إبراهيم البعيز، الخبير في سياسات التواصل الثقافي، روى له انطباعاته حول لحظة اكتشاف الفجوة الثقافية، التي تفصلنا عن مجتمعات الغرب، وذلك عندما انضم إلى فصل يدرس العلاقات الثقافية، لطلبة الدكتوراة بجامعة أمريكية، سنة 1983. وكان الطلاب ملزمين كتابة تقرير أسبوعي عن قراءاتهم في الموضوع. واعتاد الأستاذ أن يختار أفضل وأسوأ تقرير، كي يلقيه صاحب كل منهما على البقية.

في أحد الأسابيع أراد البعيز أن يكتب عن تجربته الخاصة في التواصل مع الثقافة الأمريكية، فكتب ما خلاصته أنه كان حريصاً على مطالعة جوانب الثقافة الأمريكية، كي يختار منها ما يلائم ثقافته وقيمه العربية. وأن الأستاذ الأمريكي سأله: هل تستطيع حقاً أن تختار؟ وهل هذه هي الطريقة الأفضل في التواصل الثقافي مع العالم؟

فتحت تلك الحادثة عيني البعيز على «وهم شائع» في مجتمعاتنا، خلاصته أننا نتخيل علاقة مع العالم تشبه رحلة التسوق: تدخل إلى «السوبرماركت»، تختار ما تريد، تضعه في العربة وتدفع قيمته. وقد سألت نفسي وغيري كثيراً: هل نستطيع حقاً أن نطبق «موديل السوبرماركت»؟ أي أن نفكك ثقافة الآخرين إلى أجزاء فنختار هذا الجزء ونترك ذاك؟

يجيب البعيز قائلاً إن الانفتاح على العالم يتطلب، من حيث المبدأ، استعداداً لتقبل التغيير، أي التخلي عن المخزون الثقافي الذي ورثناه وحُشيت به أدمغتنا، أو اخترناه في سياق تجربتنا المعيشية، وأن نستبدل به منظومة جديدة قادرة على إثبات أفضليتها، ولا سيما قدرتها على استيعاب تحديات الحاضر، والوفاء بحاجات المجتمع الثقافية والحياتية. هذا يعني، إلى حد كبير، تبديل النظام الثقافي نفسه، وليس استبدال عناصر محددة، فأجزاء الثقافة الأجنبية التي ربما نفكر في انتقائها ليست قطعاً صلبة قائمة بذاتها، فهي أشبه بأجزاء رواية أو قصيدة، تصمم ضمن منظور شامل يجمعها بسائر الأجزاء. فمن الصعب أخذ فقرة من «البؤساء» وأقحامها وسط رواية «ثرثرة فوق النيل»، فهل ستندمج وتمسي جزءاً من نسيجها.

نحن نجادل كثيراً في أن الانتقاء هو الخيار الوحيد المتاح، وأننا لا نستطيع الأخذ بعناصر الثقافة والقيم الغربية، إذا تعارضت مع ثقافتنا أو قيمنا. فهل هذا حقاً هو الخيار الوحيد.. والمفيد؟

التواصل مع الشعوب الأخرى ليس من الأمور المفضلة في موروثنا الثقافي. هناك شعور عميق بالخوف من أن يؤدي التواصل إلى خلخلة الالتزام الديني، ولا سيما إذا كان الطرف الآخر في التواصل أقوى مادياً أو ثقافياً، لذا لا يفضل رجال الدين السفر للخارج، والاحتكاك بالغير، إن لم يكن لحاجة ماسة، خاصة إن كانوا من خارج إطارنا الثقافي، وغير مسلمين. ومع تراجع التشدد طرأت فكرة الانتقاء مما عند الآخرين بوصفها بديلاً معقولاً في تلك الظروف، وأصبحنا نسمع أن «موديل السوبرماركت» هو الخيار الأمثل. لكن هذا يعني أننا سنختار ما يلائم ثقافتنا وأعرافنا، وهذا يعني أيضاً أن ثقافتنا وأعرافنا هي المعيار والميزان الذي نقيس عليه بضائع الآخرين، فهل نؤمن - حقاً - بأنَّ ثقافتنا وأعرافنا بلغت هذا المستوى؟ فإذا كان الأمر كذلك، فلمَ نأخذ مما عند الآخرين؟ وبالتالي يجب الاعتراف بأننا نأخذ بثقافة الآخرين، لأن ثقافتنا متخلفة، عاجزة عن استيعاب تحديات الحياة في عصرنا، فكيف يكون الفاشل معياراً يوزن به الناجحون؟

* * *

التعليم العصري الجيد هو الرافعة لكل مشاكلنا. فإصلاح الطرق اليوم لن يتحقق بالشكل المطلوب، فنظامنا التعليمي «الأخلاقي» السيئ سيتسبب في عودتها لسابق وضعها الخرب!



أحمد الصراف

https://alqabas.com/article/5926362 :إقرأ المزيد

الارشيف

Back to Top