نقطة الصفر.. التي غادرها الجميع

لم يبقَ صاحب ضمير، قلبه وعقله على وطنه، إلا وتساءل: كيف وصل وضعنا في الكويت إلى هذا الدرك؟ فقد كنا رمزاً للحرية والانطلاق والإبداع، والتقدم، فأصبحنا مثالاً سيئاً لما يصيب دولة ما إن هي اتّبعت الديموقراطية!

كيف أُطفئت أنوار مؤسساتنا الثقافية والفنية والأدبية، وخفتت أصوات المسارح، واختفت أضواء الحفلات، وكُتمت أصوات الجمعيات الأدبية والثقافية، وخُنقت أنشطة الأوبرا، وغابت المطبوعات والدوريات الأدبية والثقافية، وهُمّش دور الجامعات، وتقدمت قوى الظلام بمشاريع وأد الحريات، وكاد الجميع أن يختنق من ضغوط جماعات التخلّف والظلام، التي لا هم لها غير السعي الحثيث، بمباركة حكومية، لتطبيق بنود «وثيقة قندهار»، ونهب ثروات الدولة، وكل ذلك بسبب التحالف المشؤوم بين فئة قوية والتيار الديني الإقصائي المتشدد، الذي لا همّ له غير الحجر على المرأة، والقضاء التام على أي حركة تنويرية.
***
لا ذنب للديموقراطية في كل ما حصل، وهذا ما كررناه مراراً، فقد كانت لدى الحكومة، ولا تزال، كل الوسائل لاستمرار النهج التحرري السابق، الذي كان له تأثيره الإيجابي في كل نشاط، على الرغم من قصر تلك الفترة، وسرعان ما انقلب الأمر للضد يوم اختارت الحكومة التحالف مع التيار الظلامي، فاختفى كل نشاط حي وجميل ورائع في الدولة، وصاحب ذلك تدهور واضح في الأخلاق، وزيادة هائلة في عدد الجرائم، خاصة الجنسية والخطيرة منها، وانتشر الغش في اختبارات المدارس والوظائف، وزاد عدد المدمنين على المخدرات، وغيرها من سلبيات.

لقد كان المال والوظيفة والقوة المعنوية، وجنسية الدولة، والرخص التجارية، والقسائم الحكومية، والمناقصات، والتعيينات في المناصب العليا، وحتى المواد المدعومة، كلها بيد الحكومة، ومع هذا لم تحسن استخدامها، وغالباً خوفاً من جهات اصبحت تمثل «بعبعاً» يخيف أي مسؤول يود الإصلاح!
***
يقول الفنان المصري أيمن السيماري في نص جميل بتصرف:

كنت صغيراً، وفي كل تاكسي كان صوت الشيخ كشك زاعقاً، حتى عند بائع عصير القصب، حتى إن المدرسين تقمصوه. وحزنت عندما قالوا إن «عبدالحليم» مصيره النار، فأنا أحب «حليمو»، وبعقل الطفل تساءلت: لماذا يذهب مثله للنار؟ فهو مريض، ولم يقتل أحداً بحزام ناسف؟!

في ذلك الزمن منع التلفزيون الحكومي إذاعة أغنية «لست قلبي» بسبب مقطع، ومنعت أغنية «على حسب وداد قلبي» بسبب سطر، وتوقفت برامج الباليه والرقص الشعبي، وشوهت الأفلام والمؤلفات بالقطع والقص، لتجنّب جرح مشاعر المهووسين الجدد. وختمت الوجوه بالفطر الجلدي الأسود كعلامة للقادمين الجدد، وتحولت مباني الوزارات لزوايا، على حساب العمل، وجرى استبعاد القانوني والأخلاقي لمصلحة الحرام والحلال. وأوقفت الأهرام نشر سلسلة «حديث مع الله» لتوفيق الحكيم بعد اعتراض الشعراوي، وأجبر الهمج يوسف إدريس على الاعتذار، بعد انتقاده منطق الشعراوي المراوغ. وتم سب أم كلثوم، وأعطوها تذكرة للنار.

كان الطفل بداخلي يموت لمصلحة جبروت التأسلم والتصحر المتعطش لكراهية الحياة، وحزنت يوم دخلت علينا مدرسة الإنكليزي وعلى كتفيها خمار، وكانت البراءة تنسحب رويداً رويداً، وأقاربي يطلبون مني التخلّص من روايات إحسان وشرائط الأغاني لمصلحة سلاسل وحلقات دينية. وأصبحت أكره ذلك الزمن، فقد كان بداية الحريق وطمس هوية الدولة، وتحويل الجموع لمسوخ شائهة تلوك رطانة التغييب، وعبارات التراث المعلبة، بعد أن أدمنوا الجلوس القرفصاء أمام الشعراوي، وهو يجرف عقل أمة من نخبها إلى بسطائها، من ريفها إلى حضرها، والذين مصمصوا الشفاه إعجاباً بجلاجل مصطفى محمود، وهو يلوي ذراع العلم والبحث العلمي للغرب ليصبح على مقاس مروياته.

نحن نجني اليوم حصاد ما زرعوا في كل لحظة، حصاد جنايتهم على عقول الملايين، التي تحولت إلى كائنات منسحقة دينياً، تهذي برطانة الرجعية، وهي تعيش تواكلها، وخدرها المقدس.
***
ألا يذكرنا الكلام أعلاه بما أصبحنا نعيشه اليوم، في هذا الزمن التعيس!

كيف قبلنا العودة لنقطة الصفر، التي غادرها الجميع، غير آسفين؟!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top