أبو اللغتين

يأنف أو يتكبر الكثير من المتشددين دينياً بيننا من فكرة تعلم لغة ثانية، خاصة «الإنكليزية» أو «الفرنسية»، ولا يفضلون فكرة تعلُّم أولادهم للغة ثانية أو التحدث بها في البيت، ربما خوفاً مما سيجره ذلك من «موبقات» وما سيطلعون عليه من محرمات، غير مكترثين بحقيقة أن التحدث بأكثر من لغة أمر في غاية الأهمية والإيجابية، وله فوائد عملية واضحة في عالم يزداد عولمة.
بينت تجارب علمية أن المزايا التي يحصل عليها ثنائيو اللغة كثيرة وجوهرية، خاصةً عند التحدث والتعامل مع الآخرين. كما أن التحدث بلغة ثانية له تأثير إيجابي عميق في العقل ويحسن المهارات المعرفية، ويساعد على الحماية من الخرف في سن الشيخوخة.

 مرَّ وقت اعتبر فيه الباحثون أن اللغة الثانية تشكل معوقاً للتطور الأكاديمي والفكري للطفل، وأن هناك أدلة على أن كلا النظامين اللغويين في دماغ ثنائي اللغة يكونان نشطين حتى عندما يستخدم لغة واحدةً فقط، مما يخلق مواقف يعيق فيها أحد النظامين اللغويين النظام الآخر. لكن تبين تالياً أن هذا التدخل ليس عائقًا بقدر ما هو نعمة مقنعة، فهو يجبر الدماغ على حل الصراع الداخلي، ويمنحه تمرينًا يقوي عضلاته المعرفية. فثنائيو اللغة، على سبيل المثال، يبدون أكثر مهارة من أحاديي اللغة في حل أنواع معينة من الألغاز الذهنية. وفي دراسة أجريت عام 2004 من قبل العالمَينِ النفسيَّينِ إلين بياليستوك وميشيل مارتن ري، طُلب من أطفال ما قبل المدرسة من أحاديي وثنائيي اللغة فرز صور وفق الشكل، وكان ثنائيو اللغة أسرع في الفرز. والسؤال: لماذا يحسِّن التحدث بلغتين جوانب الإدراك لدى الانسان؟

أظهرت الدراسات أن أداء ثنائيي اللغة يكون أفضل من غيرهم في المهام التي لا تتطلب تثبيطًا، مثل رسم خط عبر سلسلة تصاعدية من الأرقام المبعثرة عشوائياً على ورقة. وقد يكون الاختلاف الرئيسي بين ثنائيي اللغة وأحاديي اللغة أكثر عمقاً، فالثنائيون عادة أكثر قدرة على مراقبة البيئة، أو ما يحدث حولهم. يقول ألبرت كوستا الباحث في جامعة بومبيو فابرا في أسبانيا: «يتعين على ثنائيي اللغة تبديل اللغات، وهذا يتطلب تتبع التغييرات من حولنا بالطريقة نفسها التي نراقب بها محيطنا أثناء القيادة».

كما بينت دراسة قارنت ثنائيي اللغة الألمانية والإيطالية مع أحاديي اللغة الإيطاليين في مهام المراقبة أن المتحدثين بلغتين لا يؤدون الأمور بشكل أفضل فحسب، بل وأيضًا بنشاط أقل في أجزاء من الدماغ التي تشارك في المراقبة، مما يشير إلى أنهم كانوا أكثر كفاءة في ذلك. كما تبين من تجربة مخبرية أن ثنائية اللغة تؤثر في الدماغ من الطفولة إلى الشيخوخة، وهناك سبب للاعتقاد بأنها قد تنطبق أيضًا على أولئك الذين يتعلمون لغة ثانية لاحقًا في الحياة. كما تمتد تأثيرات ثنائية اللغة أيضًا إلى سنوات العمر المتقدمة. فقد بينت دراسة حديثة أجريت في جامعة كاليفورنيا على عدد من كبار السن من ثنائيي اللغة الأسبانية والإنكليزية، أن الأفراد الذين لديهم درجة أعلى من ثنائية اللغة كانوا أكثر مقاومة من غيرهم للخرف وألزهايمر، فكلما ارتفعت درجة ثنائية اللغة تأخرت هذه الأمراض في الظهور.

لم يشك أحد في قوة اللغة، ولكن لا أحد تخيل أن الكلمات التي نسمعها والجمل التي نتحدث بها قد تترك بصمة عميقة على حياتنا؟

من كل ذلك نجد أن هناك ما يكفي من الأدلة العلمية على ضرورة تعلمنا وتعليم أطفالنا أكثر من لغة؛ لما في ذلك من فوائد وظيفية ومادية وأمنية وصحية لا تعد!

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top