يوم ضاع الملف

من المعروف أن الأخبار التي يتم تناقلها شفاهة تتعرض إلى التغيير والتبديل، حتى مع افتراض حسن النية. ويصبح التغيير أكبر مع زيادة تعقيد المادة المرسلة، وطولها، ودرجة أمية المجتمع، وزيادة اعتماده على التعليمات والأفكار شفهياً، والعمل بها ونقلها للآخرين بالوسيلة نفسها.
ولإثبات ذلك، قام أحدهم بالطلب من 30 شخصاً تقريباً، ومن خلفيات ثقافية مختلفة، ومن دون معرفة بينهم، الوقوف في طابور بعضهم خلف بعض. وطلب من الذي يقف في آخر الطابور أن يستدير ويواجهه ويقلد تماماً ما سيؤديه أمامه من حركة، مستخدماً يديه ورجليه. ثم طلب منه أن يستدير ويطلب من الذي يقف أمامه في الطابور أن يستدير ويواجهه ويطلب منه أداء الحركة نفسها، وهكذا.. وفي النهاية قام بالطلب ممن كان في أول الطابور، وآخر من أدى الحركة فيه، أن يواجه الجميع ويقوم بأداء الحركة، التي سبق أن طلبها من آخر من كان في الطابور خلفه، أن يؤديها أمام الجميع، وكانت المفاجأة أن الحركة التي أداها كانت مختلفة تماماً، حيث تغيرت قليلاً من شخص لآخر في الطابور حتى وصلت إلى الأخير وتغيرت كلياً.
يسري الأمر ذاته على الأخبار التي تنتقل شفاهة من شخص لآخر، حيث ينتهي الخبر غالباً بصيغة مختلفة تماماً عما بدأ. ولهذا نعتبر أن ثقافات وعادات شعوب منطقتنا شفهية في غالبها، فأكثر المبدعين في تاريخها هم الشعراء، لغياب صور الإبداع الأخرى. وهؤلاء يحفظون أشعارهم في ذاكرتهم ولا يدونونها غالباً. الأمر ذاته يسري على العقود والمواثيق التي كانت أيضا شفهية. كما لم تكن هناك عقود زواج، حتى فترة قصيرة، والسبب في غيابها يعود لغياب النص الديني المتعلّق بضرورة التدوين وندرة أدوات التدوين من جهة، واستحالة حفظ أي عقد في مكان آمن. وهكذا مع المعاهدات والاتفاقيات والنصوص الأخرى. وبالتالي أصبحنا نشعر بالسعادة عندما تقع بين أيدينا صورة قديمة أو رسالة تاريخية أو عقد قديم، وقد وردتني على الواتس أب قبل أيام صورتان لفواتير استهلاك كهرباء صادرتان عن «شركة كهرباء الكويت المحدودة» يعود تاريخ الأولى إلى مارس 1942 وهي صادرة باسم الشيخ عبدالله السالم ومبلغها روبية وآنتين، أي ما يقارب 80 فلساً بعملة اليوم، والأخرى تعود إلى مقتنيات الأخ عادل العبدالمغني، وتحمل تاريخ مارس 1937 وبمبلغ 56 روبية، ومدون على الفاتورتين أن التيار سيقطع إن لم تسدد الفاتورة خلال أربعة أيام، وبعد سداد غرامة 10 روبيات.
إن ندرة مثل هذه المراجع المكتوبة، وقلة الأطراف التي احتفظت بصور منها ومن غيرها، تؤكدان أننا لا نزال نعيش في مجتمعات بسيطة، ولا نكترث غالباً لتدوين التاريخ والأحداث، مهما زادت أو قلت درجة أهميتها، وبالتالي من حقنا الشك في كل ما وصل إلينا من نصوص، خاصة إن كان تدوينها قد تم بعد وقوعها أو قولها بعقود أو قرون.
وسبق أن تطرقت في مقال سابق إلى أن اتفاقية تأسيس شركة نفط الكويت، الأخطر في تاريخ الكويت، لم يكن لها أصل في أرشيف الحكومة حتى سبعينيات القرن، عندما انتبه المرحوم يوسف أحمد الغانم للأمر، ونقل الخبر للشيخ جابر العلي وزير الإعلام حينها، فأمر العلي بالبحث عنها واستردادها، وهذا ما تم.
ربما لكل هذه الأسباب لا نقيم الدنيا ولا نثور عندما يخبرنا موظف حكومي بأن ملف معاملتنا قد «ضاع»… لأن هذا من صلب تراثنا!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top